تلقيت من المناضلة الديمقراطية عبلة أبو علبة الأمين العام لحزب الشعب الديمقراطي الأردني، تعقيبا وثائقيا مهماً على مقالتي المنشورة يوم 3 تشرين الثاني الحالي هنا في «الدستور»، التي تناولتُ فيها «مرحلةّ مفصلية في التاريخ الوطني الأردني».
هنا نص التعليق:
لعلّ المقالة المنشورة في جريدة الدستور بتاريخ 3 / 10 / 2022 للأستاذ محمد داودية تحت عنوان: (الأفكار الخلاقة والتوقيت الذهبي)، تفتح الباب على مراجعة تاريخية لم يفت أوانها للتطورات السياسية النوعية التي وقعت منذ منتصف الثمانينات، وادت إلى الانتقال بالبلاد إلى مرحلة جديدة، أبرز ملامحها: عودة الحياة النيابية عام 1989 وإلغاء الاحكام العرفية عام 1992، وإقرار قانون الأحزاب السياسية عام 1993.
فقد تضافرت عوامل عديدة داخلية وخارجية، كان من شأنها أن تشكل رافعة كبيرة للمتغيرات التي طرأت على علاقة الحكم بالحركة الوطنية الأردنية وقوى المعارضة السياسية منها بشكل خاص.
في ربيع عام 1988 وفي العدد العاشر من مجلة الأردن الجديد المحظورة في ذلك الوقت، التي كانت تصدرها أسرة تحرير جريدة طريق الشعب المحظورة أيضا، تصدرت افتتاحية العدد مواد المجلة المخصصة لمتابعة وتحليل ورصد الأوضاع الداخلية في البلاد وحظيت المقترحات السياسية في نهايتها باهتمام عدد من المسؤولين البارزين الذين توفرت لهم فرصة الاطلاع عليها.
كما نشرت هذه الافتتاحية أيضا في جريدة طريق الشعب التي كانت تصدرها منظمة «مجد» وتوزعها سراً على أعضائها والأصدقاء السياسيين.
جاءت الافتتاحية بعنوان: مأزق الحكم ومرتكزات لسياسة وطنية بديلة، تحت ضغط مناخات سياسية فرضتها مبادرة «شولتس» الأميركية في ذلك الوقت والتي طرحها وزير الخارجية في آذار عام 1988.
وحسب هيئة تحرير مجلة الأردن الجديد فقد انطوت المبادرة على مخاطر كبرى على القضية الفلسطينية، بينما كانت الانتفاضة الأولى قد اشتعلت (1987) ووصلت اصداؤها وشعاراتها ومطالبها المشروعة العالم بأسره.
وهنا توجهت الإدارة الامريكية لتضغط على دولتين عربيتين هما الأكثر تماساً مع القضية الوطنية الفلسطينية لإقناعهما بتبني المبادرة الامريكية في مواجهة الانتفاضة: مصر والأردن.
تضمنت الافتتاحية المطولة تحليلاً عميقاً للرؤية الأميركية المطروحة التي تجاهلت تماماً الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، كما أكدت على أهمية موقف الأردن الإيجابي، من الانتفاضة وبرنامجها الوطني المعلن والمجمع عليه من كافة فئات الشعب الفلسطيني، وضرورة عدم الاستجابة للضغوط الامريكية على هذا الصعيد.
وفي سياق متصل، فقد كانت البلاد ترزح تحت ضغوط اقتصادية ومالية كبيرة، حيث تفاقمت المشكلات الاجتماعية التي خلفها النموُّ الرأسمالي التابع في السبعينات ومطلع الثمانينات.
وقد تناول مقال آخر في العدد نفسه من المجلة بالتحليل المدعم بالاحصاءات والنسب والأرقام، طبيعة الأزمة الاقتصادية، وانعكاساتها الحادة على تفاقم مشكلات الفقر والبطالة، خصوصاً بعدما بدأت الحكومة في حينه بتطبيق برنامج إعادة توزيع جذرية للدخل القومي لصالح الرأسمال الكبير، وما رافق ذلك من إجراءات مثل: اعتماد سياسة تجميد رواتب القطاع العام وانهيار الأجور وتآكل كل المكتسبات المادية للعاملين بأجر وتصاعد نسب الغلاء واتساع نطاق الفقر المطلق والنسبي وشموله شرائح اجتماعية واسعة.
القراءة السياسية الدقيقة والعميقة الواردة في الافتتاحية المشار إليها، حذرت من إمكانيات لانفجار الوضع الاجتماعي في ضوء هذه السياسات، وأدركت المأزق الحاد الذي تعاني منه مؤسسة الحكم في ضوء كل هذه الضغوط الداخلية والخارجية التي فاقمتها قوانين الاحكام العرفية ومصادرة الحريات العامة.
على الضفة الأخرى كانت الحركة الوطنية الأردنية واحزابها تعاني من اختناقات شديدة هي الأخرى، بعد عقود طويلة من العمل السري تحت طائلة الأحكام الاستثنائية، دون حدوث اية تطورات على السياسات العامة تمكنها من تطوير أوضاعها على صعيد التواصل مع قواعدها الاجتماعية والدفاع عن مصالحها المعيشية أو التقدم النسبي على صعيد المشاركة في القرار السياسي والاجتماعي.
في هذا التوقيت الدقيق طرحت «مجد» في حينه استخلاصات ومقترحات في الافتتاحية المشار اليها، دعت فيها مؤسسة الحكم إلى انتهاج سياسة داخلية تحرر البلاد من التبعية ومن الفساد والترهل والشلل الاقتصادي والانقسام والتفسخ الداخلي.
وهذا يقتضي: «الشروع في سياسة مصالحة مع الشعب بكافة تشكيلاته الوطنية والسياسية المعارضة وإشاعة أجواء انفراج سياسي شامل».
واقترنت دعوة المصالحة مع الشعب بالمطالبة بتحقيق برنامج بديل وطني سياسي اقتصادي تناول العناوين الرئيسية التالية:
العمل على إطلاق الحريات الديمقراطية وتطبيق احكام الدستور واحياء المؤسسات الدستورية وتفعيلها من برلمانية وحزبية وقضائية وإنهاء الأحكام العرفية والأوضاع الاستثنائية والافراج عن المعتقلين السياسيين واحترام استقلال المنظمات النقابية والجماهيرية واطلاق حرية الصحافة والتعبير والنشر والدفاع عن استقلال البلاد وصيانة سيادتها في وجه الاطماع الصهيونية ومقاومة الضغوط والتدخلات الامبريالية مع ما يقتضيه ذلك عن رفع القيود على حرية التجمع والتظاهر.
كذلك تقتضي هذه السياسة ( الشروع في مكافحة الفساد في جهاز الدولة وتحقيق اصلاح اقتصادي شامل لمعالجة مشكلات البطالة والفقر والجريمة والتفسخ الاجتماعي وسائر افرازات ونتائج الازمة الاقتصادية.
ان السبيل إلى ذلك هو انتهاج طريق التنمية المستقلة الرشيدة القائمة على تعبئة الطاقات والموارد الوطنية والمساعدات العربية والصديقة غير المشروطة، ووضع حد لسياسة تسمين الفئات الكومبرادورية والطفيلية والطغم المالية والاحتكارية، وكف ايدي الوكالات والصناديق الإمبريالية عن التدخل في شؤون البلاد وعن توجيه مقدراتها واتجاهات تطورها )).
واختتمت الافتتاحية بالدعوة إلى اجراء حوار وطني شامل: (( من اجل التسريع بهذه السياسة الانقاذية كبديل وطني، لا بدّ من مباشرة حوار وتعاون شامل بين سائر قوى وشخصيات الحركة الوطنية والمعارضة في البلاد.
ان هذا الحوار يجب ان لا يستثني اية قوة أو شخصية تلتزم وتبدي الاستعداد للدفاع عن استقلال وسيادة الأردن وعن حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية وتمثيله المستقل من خلال منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد له )).
كما خاطبت المذكرة اطراف الحركة الوطنية الأردنية نفسها بالقول:
(( من اجل تحقيق هذه المهمات يجب ان تعلو سائر اطراف ومكونات الحركة الوطنية الأردنية فوق مستوى الخلافات والتعارضات الثانوية وان تسهم بقسطها في تحشيد أوسع صف وطني وشعبي من اجل بلورة أشكال العمل الوطني المشترك)).
وهكذا فقد اقترنت الدعوة للمصالحة الوطنية، ببرنامج إصلاحي شامل سياسي، اقتصادي، واجتماعي، يفتح الباب أمام أحزاب الحركة الوطنية الأردنية من أجل توسيع نفوذها الاجتماعي والسياسي وطرح برامجها وتحضير قواها من اجل خوض معارك ديمقراطية قادمة، بعيداً عن القيود الصارمة التي كانت مفروضة عليها.
نؤكد هنا على صوابية وأهمية المبادرة المشار اليها في هذا التعقيب، في زمن كان يحمل المؤشرات على الانتقال إلى مرحلة سياسية نوعية جديدة، وكان لا بد من توفير أدوات وروافع شعبية تسهم في دفع عجلة التنمية السياسية إلى الامام وعلى أساس برنامج إصلاحي شامل تتبناه المؤسسة الرسمية وتضمن توفير آليات جديدة لنسج علاقات طبيعية بين الحكم والشعب بديلاً للأحكام العرفية.
إننا نعتقد أن صوت المبادرة قد وصل إلى مسامع كبار المسؤولين في ذلك الوقت وأن اطلاقها في ((التوقيت الذهبي))، كان له اثرٌ شهدناه فيما بعد عندما تشكلت لجنة الميثاق الوطني الأردني عام 1990.
كل الشكر للأستاذ محمد داودية الذي أضاء من نافذة «الدستور» على تلك المرحلة المفصلية في التاريخ الوطني الأردني.
حزب الشعب الديمقراطي الأردني «حشد»
عمان 11 / 10 / 2022.