حين كنت مدعوًّا ذات أمسية من قبل هيئة ثقافيّة أهليّة في إحدى المحافظات القريبة من عمّان ، تجاذبت فضولاً منّي أطراف الحديث قبل بدء الأمسيّة مع أحد المدعوّين للوقوف من خلال حديثه على حال المشهد الثّقافي في محافظتهـم ، و ساءني جـداً أن اختصـر لي حـال المشـهد بكلمـة واحـدة : « خربانة » يا أستاذ !!.. و هذا ما بدا لي فعلاً من خلال الجمهور الهشّ و الخالي إلى حدّ ما من المفاهيم القائمة عليها مفردة ثقافة ، و كأنَّهم قد جاؤوا على فَصيلين : أحدهم هارب من واقعه المتردّي إلى واقع أردى حالاً ، و الآخر كرفع عتب لا أكثر أمام منظّمي الأمسية !!.. فإذا كان الحال كذلك بالنّسبة للمحافظات الواقعة على تخوم العاصمة ؛ فماذا سيكون بالنّسبة للواقعة على هامش الواقع منها على أطراف الخارطة ؟!!..
على من يقع اللّوم يا ترى ؟!!.. على من يقع لوم الفهم الخاطئ للثّقافة ، و على عاتق من تقع اللّائمة في استخدام الوسائل الخاطئة في صناعة الثّقافة بالوضع الذي نراه عليه الآن ؟!!.. لا أعلم .. لا بل أعلم يقيناً .. فالجواب حاضر غائب ، و سأكون الملام و الملام إذا نطقت بالحقّ في الزّمن الّذي لا يُقبل فيه أهلُه !!.
بالأمس تكلّمنا عن حادثة جائزة حبيب الزّيودي الّتي تنظّمها أمانة عمّان و من قام بتحكيمها في هذه الدّورة !.. و قد ترفّعت مُتعنّتةً متجبّرةً أمانة عمّان بالرّد علينا رغم كّل النّداءات المطالبة بذلك !!.. و اليوم تطلّ علينا وزارة الثّقافة بـ « رواية » اعتبرتها حسب تقدير القائمين على هذا الشّأن مناسبة لمكتبة الأسرة الأردنية لذا قامت برفعها من على رفوفها - كونها على الأرجح مطبوعة على نفقتها - لتضعها مباشرة في حضن الأسرة الأردنيّة و لم تلتفت لما فيها من خدش للحياء العام إلّا بعدما تناهى إلى مسامع مسؤوليها هذا الخــبر بعـد أن طـال الموضـوع مـا طالـه مـن ضجّـة شعـبيّة و إعلاميّة « و صار اللّي ما يشتري يتفرّج » ، و لست هنا بصدد لوم الكاتب أو تجريمه أو تقييمه ، لأنّني بكلّ بساطة لم أقرأ روايته لأدلي برأيي ، لكن بمطلق الأحوال هناك ما يناسب الأسرة من روايات ، و هناك ما هو نخبوي و فوق مستوى القارئ العادي لتناوله ، و هناك ما لا يليق بعادي و لا بغير عادي ، و هناك ما لا يصلح للقراءة من الأصل !!.. دليل ما سبق أنّ أصحاب الشّـأن - و حتّى لا أظلم ، بل فالقائمين على تولّي هذه المهمّة - فـي الوزارة لـم يطّلعوا على الرّواية و لا يعلموا مضمونها و لا مكنونها ، أو أنّ من قرّر صلاحيتها للأسرة موظف لا مثقّف ، أو أن الأمور تسير بطريقة المحاصصة و محكومة للعلاقات الشّخصية !!.. بالنّسبة لي كواحد من المولودين في هذا الوطن بحظّ من ذوي الاحتياجات الخاصّة أرى أن كلّ ما ذكر صحيح !!..
.. كثيرٌ هناك ما هو خارج المألوف في المشهد الثّقافي : إصدارات لا حصر لها على نفقة الوزارة لكلّ عابر على الأدب والتي أجد أن قيمة ورق الكثير منها تفوق مُخرجها ، هيئات ثقافيّة بلا حصر و لا عدد و أصغر القائمين على أيّ منها يفصّل في الثّقافة و يعدّل عليها و يبتدع ما يريد من الجوائز و الفعّاليّات و الأنشطة دون حسيب أو رقيب ، تماماً كما تفعل بعض المؤسّسات الرّسمية التي تغـرّد فـي الثّقافـة خـارج السّـرب و على غير هدىً دون مرجعيّة أو ارتباط يذكر بوزارة الثّقافة بدعوى الاستقلالية الأمر الذي يتيح لمسؤوليها التّفرد بقراراتهم و البعض منهم ليس أهلاً للثّقافة ليُمنح هذه الصّلاحيّة ، أدبــاء و كتّاب و شعراء من كلّ شكل و لون ، أجناس دخيلة على الأدب العربي ممّا طاب لك و لذّ ، كائنات لصيقة - أنتجتها هذه الطّفرة - تعتاش على جسم المشهد الثّقافي ، تنفّع - أيضاً أنتجته هذه الطّفرة - على ظهور الحقيقيّين من الأدباء في الوقت الذي فيه الكثير منهم بالكاد يجــد قوت يومه ، محسوبيات و شلليّة .. و .. و .. و .. و .. و أظنّني بعد هذا المقـال من المغضـوب عليهـم و لن أكون ذاك المرغوب بوجوده !!.. لكن سأبقى أقول كلمة الحق ما حُييت و « اللّي عَشاي منّه يقطعه » .. أنا أديب و زاهد في الأدب عن ما سواه من المادّيّات ..
و رغم ذلك لا أنكر أنّ هناك فـي الوزارة مـن هـم أهـلٌ للأدب و من القابضين عليه ، و أجلّ فيهم مكانتهم ، لكن إيّان يُبصر نور المشاعل في هذا الفضاء الفسيح الدّامس القتامة !!..
و على هامش الموضوع فقد كان لنا حديث سبق حدث هذه الرّواية بأسبوعين مع النّائب عائشة الحسنات بتبنّي أمر توقيع مذكرة نيابيّة من الأغلبيّة لتوجيه الحكومة لتحويل وزارة الثّقافة من وزارة إلى مجلس أعلى للثّقافة يديره مثقّفون لا موظّفون ، للحدّ من هذه العبثية التي تعمّ المشهد ، و أفترض في الحكومة أن تتّخذ هذه الخطوة من تلقاء نفسها دون أن يملي عليها هذا القرار أحد .. فإطلاقاً لا يَصلح أن يدير المثقّفين موظّفـون ... حينهـا يبقـى المثقّفون على ما هم عليه في الوزارة و يوزّع الفائص من الموظفين على دوائر أخرى ، أو الحدّ بأقلِّ تقديرٍ من صلاحيات من ليس له بالثّقافة لا جمل و لا ناقة ..
آن الوقت أن تتّخذ الحكومة خطوة جادة في هذا الشّأن ، فلا يمكن تحت أيّ ظرف العبث بهويّة الوطن الثّقافية و ترك الحال على ما هو عليه الآن ..
لا أعلم أيدرك البعض من أصحاب القرار معنى « الهويّة الثّقافيّة لوطن » ؟!..
تيسير الشّماسين
عضو رابطة الكتّاب الأردنيّين
عمّان /
١ / كانون الأول / ٢٠٢٢