رغم كلّ التحدّيات الداخليّة والخارجيّة الّتي تعصف بالاقتصاد الوطنيّ إلّا أنّه ما زال صامداً وأكثر منعة من الانزلاق نحو نفق مظلم مشابه لما حدث في الجوار، فهناك علاقات مؤسّسيّة سليمة مع المانحين والمؤسّسات الماليّة العالميّة وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليّان، إضافة إلى الدعم الإستراتيجيّ الأميركيّ للمملكة.
لكنّ حالة الاستياء العامّ تجاه الوضع الاقتصاديّ ما زلت تنمو لدى فئات عديدة من المجتمع، وهناك قضايا جدليّة تدور في أوساط الأردنيّين على مختلف مستوياتهم مثل الضريبة وأسعار المحروقات والبيئة الاستثماريّة وازدواجيّة التعامل الإداريّ، ومستوى الخدمات المقدّمة للمواطنين، وهي قضايا جدليّة حقيقيّة تستحقّ النقاش والوقوف عليها وتبيان حقيقتها والأسباب الّتي أدّت إلى الشكل الحاليّ لها.
نعم هناك كلف عالية للطاقة متمثّلة في أسعار المحروقات، وهي قد تكون من أعلى دول العالم، والكلّ يعلم أنّ عليها ضريبة عالية تصل على بعض المشتقّات إلى 56 فلساً لكلّ لتر، وهي في مجملها أيّ العائدات الضريبيّة من المحروقات قد تناهز الـ1.12 مليار دينار، وتشكّل ما يقارب الـ25 % من إيرادات ضريبة المبيعات لوحدها.
لكن علينا أن نعلم جيّداً أنّ مجمل الإيرادات الضريبيّة 6.63 مليار دينار موزّعة ما بين ضريبة مبيعات 4.5 مليار دينار وضريبة دخل 1.58 مليار دينار، مضافاً إليها إيرادات غير ضريبيّة بقيمة 2 مليار دينار تقريباً لا تغطّي سوى 89 % من إجماليّ النفقات الّتي تشكّل الرواتب والأجور والتقاعدات للجهازين المدنيّ والعسكريّ 63.8 % منها، والنفقات التشغيليّة 9.4 %، وفوائد الدين 16 %، وهذه جميعها تشكّل 89.2 % من إجماليّ النفقات التشغيليّة الدولة، وبالتّالي يبقى هناك عجز في الخزينة تجاه باقي النفقات العامّة الّتي تزيد على 11 مليار دينار بأكثر من 2.3 مليار دينار، وهذا يتمّ سداده من خلال الاقتراض الداخليّ والخارجيّ، وبالتالي نحن بحاجة اليوم لحوار وطنيّ لمعرفة كيف للحكومة أن تواجه هذا العجز دون الاقتراض، وهل بالإمكان التدخّل الجراحيّ العميق في بنود النفقات العامّة كما يحدث في معظم الدول الّتي سرعان ما تمتدّ يدها في حال الأزمات على الأجور والمنافع المختلفة في الموازنة وإعادة هيكلة العاملين في جهاز الدولة الإداريّ؟، أم أنّ هناك نفقات بإمكان الحكومة إلغاءها أو إعادة تبويبها وتخفيضها من أجل توفير مخصّصات توجّه لسداد العجز؟.
السادة النوّاب أكثر طلباتهم في الفترة الأخيرة تتعلّق بالأمن المعيشي للمواطنين، وخطاباتهم قاسية تجاه الحكومة في القضايا الاقتصاديّة، وهي غالباً ما تركّز على التعيينات وتخفيض الضرائب والأسعار وزيادة الدعم والمعالجات الطبّيّة وغيرها من المطالب الخدميّة البعيدة كلّ البعد عن الدور الأساسيّ للنوّاب وهو التشريع والرقابة وفرض سيادة القانون.
لا شكّ أنّ مطالب النوّاب المختلفة هي مطالب منطقيّة في ضوء ضعف التوظيف الحكوميّ وتراجع الخدمات في القطاع العامّ، لكن من الناحية الأخرى لا بدّ لنا الاعتراف أنّ هذه المطالب هي أيضاً جزء من المشكلة وليست حلّاً لها، لأنّ معظم هذه المطالب لها كلف ماليّة هائلة على الخزينة، ولا نبالغ إن قلنا إنّ النوّاب أنفسهم كانوا أحد الأسباب الرئيسيّة لتضخّم جهاز الدولة الإداريّ وعقبة أمام أيّ مشروع إصلاحيّ للإدارة العامّة بضغوطاتهم المتواصلة على الحكومات من أجل التعيينات وسوء توزيع موارد الدولة والتجاوز على سيادة القانون في الكثير من الحالات بالشراكة مع الحكومات الّتي خضعت لمطالبهم مقابل صفقات من تحت الطاولة.
أقولها بصراحة، الاقتصاد الأردنيّ ليس بحاجة للتنظير لمعرفة أسباب لما وصل إليه، فالعلل واضحة منذ عقود، وهو ليس بحاجة إلى خطط بقدر ما هو بحاجة للتنفيذ القويّ لعمليّات الإصلاح المعروفة للجميع، لكنّ الكلّ يعلم أيضاً أنّ ملفّ الإصلاح في المملكة ليس سهلا، فتداعياته ليست ماليّة فقط، وإنّما اجتماعيّة وسياسيّة ومعيشيّة، ويوجد مقاومة شرسة لأيّ جهود إصلاحيّة بغضّ النظر عن مضمونها لأسباب مختلفة، وضعف في الاتّصال الرسميّ بين الحكومات والمواطنين، وهذا سببه الرئيس فقدان الثقة تجاه الخطاب الرسميّ والوعود الحكوميّة خاصّة في الشأن الاقتصاديّ.
المطلوب حوار اقتصاديّ وطنيّ مسؤول بين مختلف الجهات الرسميّة والأهليّة لوضع النقاط على الحروف تجاه تعزيز سيادة دولة القانون والاتّفاق على الخطوط العريضة لعمليّات الإصلاح وكيفيّة تنفيذها بالشكل المطلوب.