هل نحب بلدنا حقاً هذا سؤال يمكن ان يدرج في سياق (لزوم ما لا يلزم) اذ انه لا يمكن لاحد ان يتعامل مع وطنه من خارج دائرة "الحب" ، لكن الا يحتاج موضوع "الحب" الى تحرير ، أليس ثمة أنماط من الحب بعضها يندرج في الاطار الصحيح والصالح ، وبعضها الآخر مجروح بالنقصان او الفساد او سواهما من صور الخلل والقصور؟ الا يختلف (الحب) في درجته.. وفي نوعه ايضا؟
اذن ، كيف نحب بلدنا صيغة السؤال تبدو مشروعة ، فالحب فعل وليس مجرد اسم ، ممارسة وتفاعل ، غاية لا مجرد وسيلة ، قيمة غير مشروطة بالتبادل ، معنى مطلق لا يخضع لمقاييس الخوف او الطمع.
لا ادري لماذا خطرت الى بالي فكرة "حب" الاوطان ، في الاسابيع الماضية عكفت على قراءة عشرات البحوث والكتب حول موضوع "الحب في الاسلام" ، وحين كتبت امس الاول عن علاقة الحب التي تربط بين الخالق وعباده ، سألني احد القراء: وماذا عن "الحب" في حياتنا ، هل أصبحت مجتمعاتنا تعاني من (الفقر) في الحب ، وهل فقدت هذه القيمة العزيزة معناها وأصبحت مغشوشة بامتياز؟
عدت الى احصائية اثبتها احد الباحثين حول "الحب في القرآن الكريم" ، فوجدت ان كلمة "حب" ومشتقاتها وردت نحو (86) مرة في القرآن ، جاءت بصبغة الفعل (75) مرة ، وبصيغة الاسم (11) مرة ، ودلت على الحاضر (72) مرة وعلى الماضي (3) مرات فقط ، ما يعني ان الحب الحقيقي ليس اسماً فقط وانما عمل ، وليس ماضياً وانما فعل حاضر ومستمر ، وليس "شعارا" وانما ارادة والتزام.
أشعر - الآن - اننا بحاجة الى اعادة الاعتبار لقيمة "حب" الوطن ، وبحاجة الى تحريرها مما اعتراها من سوء فهم او ممارسة ، كيف؟ لا أدري؟ ولكن بوسعي ان اجتهد في المسألة وأقول: بأن معيار الحب الحقيقي هو "العطاء" بلا شروط ، فالذي يحب وطنه لا ينتظر أي منفعة ، ولا يمكن ان يقايض محبته بأي ثمن ، والذي يحب بلده يستعد دائما للبذل والتضحية ، ولا يختزل "احساسه" والتزامه في دائرة الكلام فقط ، فالكلام - هنا - لا يكلف صاحبه أي شيء ، وانما الامتحان الحقيقي "للحب" فيما يقدمه ويفعله.. لا فيما يردده فقط.
في بلادنا ثمة نماذج مشرفة لهذا الحب الذي يتجاوز "شروط التعاقد" ومواسم المصالح والمنافع ، فما زلنا نتذكر من ضحى بروحه ودمه من اجل الوطن ، وما زلنا نتذكر اسماء شهدائنا - وما اكثرهم ، في فلسطين وغيرها ، وما زلنا نعتز بسيرة الموظف النزيه§ والوزير النظيف ، وكل هؤلاء - وغيرهم - قدموا لنا صوراً عن (الحب) للوطن في معناه الحقيقي المنزه عن المنافع والمصالح ، وفي بلادنا - ايضا نماذج اخرى - مؤسفة - اختزلت (الحب) في دائرة المقايضة او المنفعة الشخصية ، وحين تبددت فرصها ، او غادرت مواقعها ، انقلبت رأسا على عقب ، وتحول (الحب) الى نوع من المناكفة.. ان لم نقل الى الكراهية ذاتها.
في الاوقات الصعبة ، تحتاج الاوطان الى من يؤمن بها حقاً ، ومن يحبها حقاً ، تحتاج الى الحب العملي الذي (يُعرف ولا يوصف) والى الحب غير المشروط والمجاني ، الى الحب (الفعل) وليس (الاسم) ، الغاية وليس الوسيلة ، الى الحب (الصادق) لا المنقوص او المعكوس ، وهذا - بالتأكيد - موجود واصحابه كثيرون.. وهم لم يتواروا عن الانظار وان خيّل لنا ذلك.