زاد الاردن الاخباري -
د.جواد العناني - أكبر نقطة جدلية تفصل المدارس الاقتصادية عن بعضها البعض هي البحث في دور الحكومة وحجمه ومناطقه في إدارة اقتصاد الدولة.
فالبعض يرى أن الاقتصاد يصل ذروة الرفاه عندما يكون دور الحكومات محصوراً في القطاعات التي حددها آدم سميث صاحب النظرية الرأسمالية الكلاسيكية وهي الدفاع، والأمن، والتعليم، والصحة، وبناء المرافق العامة. وهي تجمع الضرائب لهذه الغايات، وتنفقها بالشكل الصحيح القائم على المنافسة، ولا تتدخل الدولة في الصناعة، والتجارة، ولا في كميات الإنتاج، ولا في الأسعار، ولا في التصدير أو الاستيراد، فكل هذه في نهاية المطاف متروكة لتُحَدد من قبل آليات السوق الحرة من القيود والاملاءات الكمية أو السعرية.
في ظل هذا النموذج تكون كلفة الحكومة على الاقتصاد في أدنى حدودها، في الوقت الذي يساهم فيه دورها بالوصول بالاقتصاد إلى أعلى درجاته.
وأما النظريات الاشتراكية فترى أن دور الحكومة هو دور مركزي، ويجب على الحكومة أن تشرف على كل شيء تقريباً لأنها هي الضامن الأساس لتوزيع الدخل والثروة على الناس بعدالة. وفي المفهوم الشيوعي فإن “من كُلٍّ قدر استطاعته، ولكل قدر حاجته”.
وقد عزز هذه الأفكار كل من كارل ماكس وفريدريك انجلز الالمانيان في ما سمي بالبيان الشيوعي ( أو المانيفستو الشيوعي) وتوسع في شرحه ماركس في كتابه ” رأس المال” أو ” داس كابيتال”. وبموجبهما، فإن العدالة والمساواه تتحققان اذا سيطر العمال ( وهم عنصر الإنتاج الوحيد المسؤول عن قيمة الإنتاج) على مقاليد الأمور، ومنعوا استغلال الرأسماليين للعمال. وهكذا تكون الحكومة قد حققت منتهى العدالة دون الاشاره إلى كلفة الحكومة.
وهناك طريق ثالث بدأ يبرز مؤخراً في أوروبا يدعو إلى المزج بين النظامين، وهو ما يسمى “بالنظام الرأسمالي الاجتماعي” الذي يجمع بين حسنات النظامين. وبموجب هذا النظام، فإن الفرد ليس مقدماً على المجموع، ولا تطغى فيه مصلحة المجموع على المصالح الفردية، بل هناك حد السواء الذي يمزج بين النظامين تاركاً لاطماع الفرد وطموحاته وابداعاته أن تأخذ مداها في الوقت الذي تتدخل فيه الضرائب لتحول دون تركز الثروة والدخل في عدد محدود على حساب المجموع.
وبالطبع هنالك النموذج الاقتصادي الإسلامي الذي يتبنى منهجية الفكر الرأسمالي ولكنه يثقفها ويجود نتائجها عن طريق منع الغش والتطفيف، والاحتكار والتخزين الاحتكاري، ورفض الربا وأية ممارسات تخلق دخولاً مقابل المتاجرة بالنقود ووسائلها، ويمنع الرشوة ويعاقب أطرافها الثلاث وهم الراشي والمرتشي والرشاء ( والرشاء هو الوسيط بين الراشي والمرتشي).
في ظل هذا النظام تحقق الحكومة اقصى درجات الرفاه للشعب دون أن يكبر دور الحكومة إلى حد تصبح فيه عاجزه عن تحمل الأعباء والتكاليف التي تتكبدها بشكل منتظم.
هذه الخلفية الموجزة للأفكار النظرية المطروحه عن دور الحكومة ما تزال تستحوذ على اهتمام المفكرين. ولقد وضع بعض الدارسين نماذج لقياس كلف الحكومة على الاقتصاد، والسعي للحكم اذا كانت هذه الكلف مبررة أم غير مبررة.
ودعونا نتساءل في الأردن عن تكلفة الحكومة على الشعب الأردني. ويدفع الأردني ما قدره 30% من دخله الشخصي ضريبة دخل. وهو يقع تقريباً في المنتصف من بين دول العالم. فهناك دول تصل نسبة الضريبة فيها إلى اكثر من 50% كما هو الحال في بعض الدول الاسكندنافية وإسرائيل وبعض الدول الأخرى. بينما دول كثيرة تدفع اقل من 50%. ولهذا، فإن القول أن الحكومة الأردنية تستحوذ على جزء كبير من الدخول الشخصية في الأردن قياساً لدول العالم الأخرى ليس دقيقاً. وقد وجدت من القوائم المنشورة من جهات دولية معتمده أن نسبة ضريبة الدخل على أرباح الشركات في الأردن تأتي من بين أعلى 40% من دول العالم. وهذه نسبة أعلى من اللازم قليلاً.
أما النسبة الأعلى فكانت في ضريبة المبيعات الأردنية حيث هي من أعلى النسب بين الدول الناميه، وتأتي في الثلث الأخير من بين الدول المتقدمة.
وحصيلة الضرائب والرسوم التي يدفعها المواطن الأردني كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تبلغ حوالي 28% في المعدل، وهو مرتفع بين الدول النامية، ومقارنة بأعلى عشرة دول في العالم فإن نسبة الضرائب فيها إلى الناتج المحلي الإجمالي تساوي 32%.
ولكن المشكلة ليست بالتحصيل ولا في أسلوبه فقط بل تكمن المشكلة في الانفاق. فعدد العاملين في القطاع العام وفي المؤسسات المستقلة والمملوكة أو المدارة من الحكومة يبلغ حوالي 42% من مجموع القوى العاملة الأردنية. ولو أخذنا مجموع ما يدفع من رواتب في الموازنة، فسنرى أنه يتجاوز 6 مليار دينار سنوياً، هذا عدا عن الذين توضع رواتبهم مخفية ضمن النفقات الرأسمالية أو النفقات على البرامج الخاصة الممولة من مساعدات أو قروض خارجية، وهذا رقم كبير جداً بكل المقاييس، ويجعل كلفة الادارة الحكومية كنسبة من مجموع الإيرادات الحكومية، او النفقات الحكومية او الناتج المحلي الإجمالي واحدة من أعلى عشرة دول في العالم.
ولهذا، فإن هَمَّ وزير المالية الأساسي هو تدبير الرواتب والأجور المستحقة على الحكومة كل آخر شهر، ولهذا نرى أن الحكومة تلجأ في كثير من الأحيان إلى تأخير تسديد التزاماتها للمقاولين والمزودين، أو إلى تأجيل دفعات ملتزمة بدفعها بموجب شروط تمويل تلك المشاريع، أو إلى الاقتراض على أن تواجه أي احتمال لظهورها بمظهر العاجز عن دفع الرواتب.
وحيث أن الحكومة أكبر جهة منفقة وبشكل دوري، فإن تقاعسها عن الدفع، أو تشديد موقفها حيال مستحقاتها من ضرائب ورسوم ينعكس سلباً على الاقتصاد ككل، وبسبب ارتفاع نسب التوظيف الزائد وتلبيس الطواقي المتبع، فإن الحكومة تصبح منافساً قوياً على المدخرات والأموال القابلة للاقتراض في السوق. وكذلك يتحول اهتمام الحكومة من رعاية الناس وتحقيق مصالحهم إلى الالتهاء بالمشاكل الناتجة عن كبر حجم الحكومة، وكثرة تدخلاتها في آلية السوق (في الأسعار والكميات) إلى الحد الذي يجعلها معكرة للعملية الاقتصادية، ونائية بها عن المسار الأمثل.
هذه المشاكل الموجودة في بنية الحكومة الأردنية لها حلول واضحة أهمها رفع كفاءة الموظفين، وزيادة انتاجيتهم، وتشجيعهم على استخدام وسائل التكنولوجيا الرقمية، ويبدو أن اهتمام الحكومة ينصب على تشجيع الناس لاستخدام وسائل الدفع الالكترونية، في الوقت الذي لا يوجد العدد الكافي من الموظفين المدربين على استخدام الوسائل الرقمية الحديثة لدفع هذه الفواتير.
هذه المشاكل لم تأتِ بين يوم وليلة، بل هي تراكمات مضى عليها حتى الآن ما يقارب نصف قرن من الزمان.
ولهذا نحن لا نحمل حكومة د. بشر الخصاونة مسؤولية هذه التراكمات التي اوصلتنا إلى حال يرثى له في الإدارة العامة، والفساد الذي يعشعش في بعض مفاصلها، ولا عن تردي إنتاجية الموظف وعدم مبالاته أحياناً بأداء عمله، ولا هي مسؤولة عن جهل بعض الموظفين ( وبخاصة الجدد) بالقوانين والتشريعات الناظمة لاعمالهم، ولكن نحملها مسؤولية أن تتبنى أولويات خاطئة مثل دمج الوزارات أو إلغاء بعضها.
وللانصاف، فإن الحكومة قد بدأت تنشط بشكل خاص في بعض النواحي، ومنها على سبيل المثال تنشيط السياحة، والاستثمار في المعادن، ونلحظ مساعي وزارة الزراعة الحثيثة لتنويع الانتاج الزراعي وتحديثه، ووزارة الري في بدءها الجدي مع وزارة التخطيط لتمويل مشروعات المياه، وهنالك أمثله أخرى بوزارة الصحة، والحركة نحو تفعيل المجالس المحلية المنتخبه، ولكن وزارة النقل يجب أن تفعل لاعادة تنظيم القطاع، وكذلك وزارة الطاقة.
وضروري أن تدرس الحكومة القرارت الحساسة بشكل أفضل حتى لا يتكرر مأزق تسعير المشتقات. لقد تحسن أداء الحكومة بشكل عام، ولكن دورها التوضيحي لقرارتها وتفسيرها لها ما يزال أدنى من المطلوب.
الإصلاح الادراي الذي تحدث عنه جلالة الملك باستفاضة في العقبة مطلع هذا الأسبوع لا ينفذ بقرارات فردية تؤخذ على مستوى الوزارات التي تتصرف كصوامع متفرقة، بل هو عملية متكاملة مستمرة تبدأ بالاولويات الصحيحة.
نقول للحكومة إنك إن احسنت كان الشعب معك ومقدراً، وكذلك المحللون أمثالي، وأقول لهم استمروا في التحسين والمتابعة، وكان الله في العون.