حسن محمد الزبن - في ظل معلومة أن 21 ألف نزيل ونزيلة في مراكز الإصلاح يشكل عبء على الطاقة الاستيعابية لها، والتي تقدر بما يقارب 13 ألف نزيل، ما يؤكد أن نسبة الاكتظاظ في مراكز الإصلاح(السجون)، يصل إلى 160% من طاقتها الاستيعابية، وأن المسوحات القانونية وحسب التقديرات الأخيرة تقول إن أكثر من 200 ألف مطلوب للتنفيذ القضائي على قضايا شيكات دون رصيد، وقضايا لنساء على القروض الممنوحة والمشاريع الصغيرة، نحن مع كل ما يوقر المجتمع ويرفع الفضيلة فيه، ويدعو لتماسكه، فالعفو من شيم الكرام، والتسامح مبعث للسمو ورفد القيم الإنسانية بالمحبة والتعايش الآمن، والعفو العام فيه نظرة من جانب أن فيه تخفيفا على المواطن نحو أمل وطريق جديد، لعل وعسى أن يُعيد الموقوفون والسجناء نظرتهم للحياة بترتيب أوضاعهم وتغيير النهج والسلوك لما فيه مصلحة بيوتهم وأسرهم وعوائلهم بما يعود بالأثر الإيجابي على المجتمع والوطن.
ولعل التسامح والعفو يكون طريقا لعدم تكرار المساس بأمن الوطن، وأن يكون السلوك لكل مخطئ هو الندم على ما فات وفرصة لتقويم النفس وتطبيع طبائعها الأمارة بالسوء، ويكون معها نهجا جديدا واعتذارا يبشر بتبعات جديدة في الحياة نحو الخير والبحث عن مكان يحظى من خلاله الشخص الذي صدر بحقه العفو العام، وفرصة ليحترمه كل من حوله، ويلقى الترحيب وينسجم مع قول الرسول العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام حين قال “ وما زاد الله تعالى عبدا بعفو إلا عزا”
وبما أن مجلس النواب تبنى مشروع العفو لإصدار قانون العفو العام والمصادقة عليه، فإن هذا يعتبر مكسب وإنجاز له في ظل رؤية الشارع الأردني لهذا المجلس، ويسجل له المطالبة بالعفو في قضايا الصلح بعد إسقاط الحق الشخصي وإعادة النظر في التوقيف الإداري، لكن هذه المطالب بالعفو العام تفرض استحقاقات من بينها ما تشكله من عبء مالي على الدولة، وإصداره في هذه الظروف لا ينسجم مع التحديات التي تعيشها الدولة في ظل الالتزامات المالية وظروف الموازنة والمديونية والعجز، والعديد من القضايا الاقتصادية المتشابكة في ظروف ما زالت مستعصية وتحتاج لحلول على أرض الواقع، حتى لو كان المطالبة بالعفو من أهدافه في المنظور السياسي تحسين وتلطيف الجو العام بين المواطن مع الحكومة والنواب، إلا أنه من وجهة المنظور القانوني، هو ضرب لسيادة القانون ونفاذه، بل والقفز على التجاوزات والأخطاء والجرائم التي نفذها مرتكبوها مع الإساءة للأفراد والمجتمع وشكلت عاملا في تهديد منظومة السلم المجتمعي.
لكن أن تكون الحجة لإصدار العفو العام أن القدرة الاستيعابية لا تتحمل المزيد من المخالفين للقانون فهذا يعني أن الدولة لم تهيأ نفسها لاستيعاب التغيرات والأمراض الاجتماعية التي تنمو في المجتمع وتؤثر فيه مع ازدياده، والأجدر بالحكومات أن تضع خطة مع موعد إعداد موازنة الدولة كما هي حالها عندما تضع خطط للمدارس في التوجهات الخدمية للتعليم، وعليها أن تصنف مراكز التأهيل (السجون) إلى فئات، وحسب الجرائم المرتكبة، فلا يعقل أن يوضع مرتكب جريمة القتل مع سبق الإصرار والترصد مع نزيل ارتكب القتل في حادث سير دهس غير متعمد، أو أن يكون البلطجية وأصحاب االأتوات مع نزيل أصدر شيكات دون رصيد، أو شخص ارتكب جريمته باستخدام الأدوات الحادة أو المسدس مع نزيل تعارك مع آخرين في مشاجرة عادية غير مخطط لافتعالها، أو من ارتكب جريمة الاغتصاب وهتك العرض وموسوم بالإباحية والسلوك غير السوي مع نزيل ارتكب جريمة الشتم والتحقير والإهانة، أو أن يتواجد سجين سياسي أو صاحب فكر معين مع من هب ودب من المجرمين.
لقد آن الأوان أن تغير الدولة من وجه مراكز الإصلاح (السجون) ليس بالتسمية، بل بالفعل وعليها أن تستفيد من تجربة الدول الغربية الرائدة في إدارة السجون، خاصة أن الدولة لا تقصر في ابتعاث المبعوثين من كوادر جهاز الأمن العام في مهمات ومؤتمرات وبناء علاقات تشاركية مع أجهزة دول العالم فيما يخص العمل الشرطي والأمني، وهي سياسة معمول بها في هذا الجهاز الذي نثق به ونحترمه، ويجب ألا تبدد الجهود ويجب استثمارها فيما نصل إليه من خبرات وتوظيفها على الواقع في الدولة، ليتغير النمط المعروف عن السجون برغم كل التحسينات التي طرأت عليه، لكنه لم يصل إلى المستوى الذي نتطلع إليه، ويطالب كثير نحو هذا التغيير حماية لصورتنا الحضارية، ودفعا لتقدم أجهزتنا ورقيها أمام المؤسسات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان وتصدر تقاريرها تباعا من خلال زياراتها لمراكز الإصلاح في الأردن، مع أهمية استخدام العقوبات البديلة السالبة للحرية والتي بدأ بتطبيقها حديث مع الأخذ بالاعتبار أن لا ننسى التفكير الجاد في تصنيف مراكز الإصلاح وإعادة تأهيل الموجود منها والتوسع في بناء المزيد منها بنمط ومواصفات عالمية ودولية متعارف عليها.
أنا لست ضد تبييض السجون أو ما يسمى بمراكز الإصلاح، لكن ضمن آليات وضوابط وشروط تعتمد مدونة السلوك لكل نزيل، فإذا كانت هذه المدونة لا تبشر بتحسن داخل مركز التأهيل فكيف نتوقع منه أن لا يعود لممارسة أفعاله داخل المجتمع، وعليه فالعفو العام يجب إعادة النظر فيه وفي التوقيت الذي يصدر فيه، فليس من المعقول أن يكون كل سنتين أو ثلاثة ويكون مطية للبعض المطالبة به بتجدد الدعوات لذلك، فالموضوع ليس رغبات ولا أهواء ولا مصالح، الموضوع دولة ومؤسسات قانون، وكل من يخالف القانون يجب أن يتحمل تبعات ذلك.
والعفو العام يجب أن يكون ملزما وحافظا للحقوق الشخصية، وأن تتوفر المصوغات اللازمة لتحقيق العدالة مع مراعاة ظروف العسرة في القضايا المالية وعدم إمكانية عدم السداد، وإذا كان العفو يهدف لفكرة الدمج المجتمعي، فالأولى أن يدرس حالات النزلاء قبل إصدار العفو والمصادقة عليه، إن كانت أوضاعهم تؤهلهم للدخول في تسوية الدمج المجتمعي، أما إذا كان الأمر خلاف ذلك فالأفضل أن يبقى النزيل في المكان المخصص له في مراكز الإصلاح حتى ينصلح حاله، أو تنتهي محكوميته، لأن خروجه لا جدوى منه، بل إنه سيسعى للعودة إليه قريبا، وقد يكون قبل خروجه قد خطط لذلك، وكثيرا ما عاد المفرج عنهم خلال أيام أو أشهر قليلة بدافع وغاية مسبقة.
وعلى الدولة من خلال البنك المركزي استصدار قوانين ومعايير جديدة وتعليمات واضحة توقف مؤسسات التمويل والبنوك من التغول على المقترض بشروط تعسفية وغير منصفة، وبالأغلب لا يقرؤها عند توقيع العقد لأنها سلسلة من الصفحات بخط صغير، خط بحجم النملة كما يتندر البعض، ولا وقت لديه لقراءتها أصلا لأنه معني بأخذ المبلغ الذي يمكن أن يسهل أموره ويستعين به على أموره الشخصية أو يساهم في دعم مؤسسته الفردية.
الخلاصة كيف سيسود القانون ونحن نرضى خروج الفاسدين والمجرمين بحق الوطن والمجتمع من مخادعهم ومهاجعهم في مراكز الإصلاح بتقديم العفو العام على طبق من النوايا الحسنة، وفيهم من تاجر بالوطن وروج المخدرات التي نحاربها وتكلف الدولة مبالغ طائلة في جهود السيطرة على مورديها ومروجيها وناشريها، بل ودفع الجيش العربي وأجهزة الأمنية ثمنا باهظا لا يقدر بثمن من صفوف الجرحى والشهداء وهم في مهمات الملاحقة والمتابعة والصد عن الوطن حماية لأمنه واستقراره وحفظ المواطن وسلامته، أو نقبل أن يخرج من ثبتت عليهم جرائم الفساد والرشوة والاختلاس من المال العام ومن كان لهم مساهمة في هدر المال العام الذي بعرفنا وأخلاقنا جريمة تهدد أمن الدولة، والتعدي على سياساتها في استقرار المؤسسات العامة وضمان تقدمها ورقيها، وكيف نقبل لمن يتاجر بالأعضاء البشرية أن يرى الحرية ويعود للمجتمع الذي ارتكب فيه أفظع الجرائم وحرم كثير من العائلات وسلبها أعز الناس عليها، كيف نقبل أن نعفو عن القاتل والمغتصب وهاتك العرض وهي جرائم كلما حدثت أحدثت شرخا وصدمة في المجتمع، وأحدثت تصدعا يحتاج لسنوات طويلة حتى تلتئم الجراح وما عاناه المتضرر من غصة ومآس، كيف نقبل بالعفو العام لمن احترف ضرب الموس والسيف أو أي آلة حادة وتسبب بعاهات وتشويه لأفراد اختلف معهم بسبب سلوكه وتصرفاته غير السوية، ومسلسل الجرائم يطول ولا ننسى جرائم الإرهاب والتجسس والخيانة التي ألقت بظلالها على كل من يعيش داخل الوطن.
وهذا يستدعينا لقول أين حقوق المتضررين من كل هذه الأفعال والجرائم التي ارتكبها أصحابها، وأين الهيبة لمنصات القانون وأعمدة القضاء، الذي نرى فيه الضمان لحقوق أي إنسان يعيش في هذا الوطن، ونصرة للمظلوم على الظالم وإنصافه وإحقاق الحق له، إيمانا منا أن لا تهتز أركان العدالة التي يتطلع إليها الجميع في المجتمع الأردني.
وحمى الله الأردن،