منذ انتهاج سياسات تحرير السوق النيوليبرالية في أوائل الثمانينيات، أصبحت الجامعة أكثر فأكثر موضوعاً لمبادرات الإصلاح المتتالية، مع التركيز المتزايد على قابلية توظيف الخريجين بدل احتضان الحركات الداعمة لقضايا الحراك الاجتماعي والمرفق العمومي، والمعتمدة على منهجيات النقد الفكري. وعلى ضوء ذلك، جرت التضحية بالمبادئ الأساسية التي تحكم الجامعة كفضاء لحرية البحث يساهم في الصالح العام والجدلية العلمية والأصالة والتفكير الناقد، لتطوير سوقٍ للاستشارة يلجأ إلى خدمات الخبراء، أو عبر خلق هياكل خارج الجامعات تمارس النشاط البحثي . وقد هُيئ لذلك بالترويج في المنابر الإعلامية ذات الطابع الرسمي للأزمة البنيوية للجامعة الأردنية وعدم إنسجام المعرفة المدرّسة في الجامعات مع متطلبات السوق. كما أنّ مشاهد الإعتصامات وإحباط عملية التدريس غذت الشعور لدى الفاعلين السياسيين بأّن إستمرار الجامعة كساحة للنضال وكمعقل للمعارضة الفكرية يعمق الإشكالات الاجتماعية، وبأنّ إعتماد المسارات المهنية والشهادات الموجهة للسوق يعتبر مفيداً للنخبة الحاكمة، لضبط وتوجيه توجهات الطلاب والباحثين على حد سواء. وفي ذات السياق، تشير الإحصائيات إلى أنّه على الرغم من أنّ الأردنيون ما زالوا يمثلون العدد الأكبر من الطلاب الأجانب في بعض الدول، إلا أنّهم ينتسبون بشكل متزايد إلى كليات الطب والهندسة بدلاً من القانون و العلوم الإنسانية أو الاجتماعية.
من الواضح أنّ كثيراً من المثالب تعتري البحث العلمي وموارده المالية، حيث أنفق الأردن حوالي .10بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي على البحث العلمي في السنوات الأخيرة، وهي ميزانية هزيلة بمقياس المعايير الدول. كما أنّ الميزانية المخصصة لمشاريع البحث في مجال العلوم والتقنيات من المركز الوطني للبحث العلمي والتقني تفوق عشر مرات التمويل المخصص لمشاريع البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية سنة(CNRST, 2020).
وتفاقم هزالة التمويل النقص في المختبرات الجادة والمعدات المسخّرة للبحث، وكذلك في المجلات العلمية الرصينة. كما تؤكد تكلفة نشر الكتب والوضعية السيئة لمكتبات الجامعة على تهميش دور الجامعة وإجهاض المبادرات البحثية.
ولعل من المناسب أن نشير إلى أنّ تقرير "البحث العلمي في الأردن" الذي أنجزه معهد البحث من أجل التنمية الفرنسي سنة 2007 خلص إلى أنّ إنتاج أبحاث العلوم الاجتماعية يعتمد على جهود الباحثين الفردية، بدل الاشتغال ضمن فرق بحث منظمة. كما أنّ الأساتذة البارزين في مجال البحث العلمي يهملون تكوين الأجيال الصاعدة من الطلبة الباحثين، مفضلين التوجه نحو خدمات الإستشارة لقاء مقابل مادي، لتلبية حاجياتهم الوظيفية والخاصة ولتوفير موارد العيش والرفاه لأسرهم، ما يعمق الانفصام بين جهود التفكير والفضاء الجامعي المبني على المساواة والمعرفة للجميع. كما أنّ ضخامة الإلتزامات التدريسية واكتظاظ المدرجات بالطلبة يحدّان من مردودية هيئة التدريس، ويعيقان إجراء الأبحاث ونشرها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ محاور إهتمام باحثي العلوم الإجتماعية ترتبط بـعدد محدود من الموضوعات التي يتم تناولها عادة في المؤتمرات والندوات: الحوكمة، التنمية، النوع الإجتماعي، السياسات العامة، المجتمع المدني وحقوق الإنسان. والواقع أنّه منذ التسعينات، همشت الدراسات الأكثر تعقيدًا والمتعددة التخصصات، وأهمل تمويل العلوم الإجتماعية. وفي المقابل، يحيل إنشاء الجامعات الخاصة كما هو حال جامعة الألمانية الأردنية المتعددة التخصصات التقنية، إلى تحويل التعليم، وفق نطاق السوق، نحو المقاولة والإبتكار والبعد الشرق أوسطي للأردن من بين مجالات أخرى. كما تستقطب هذه الجامعة الخاصة مجموعة من الباحثين من مختلف الأماكن وتبرم إتفاقيات مع مؤسسات مرموقة. غير أنّ انتقائيتها وتبعيتها للقطاع الخاص، من شأنهما أن يعززا نخبوية التعليم وازدواجيته (تعليم النخبة وتعليم الطبقات المسحوقة) التي بزغت في فترة ما بعد الضباب ، بدل إرساء المساواة والإستقطاب المفتوح.
كما أنّ خصخصة البحث العلمي والإفتقار إلى التمويل اللازم للأبحاث الجامعية العمومية قد حدثا بالتوازي مع الانتشار الكبير للمعاهد المهنية الخاصة. وقد بُرّر ذلك بجودة التدريس مقارنة بالجامعات الحكومية، لكن الملاحظ أنّ المؤسسات الخاصة دائماً ما تفتقر هي أيضاً إلى برامج أبحاث واضحة، باستثناءات معدودة. إنّ منطق هذا النموذج هو منطق اقتصادي في الأساس. وهو ينظر إلى المعرفة على أنّها رصيد إقتصادي نادر، له تكلفة فردية وإجتماعية وعوائد، ويعاملها أساساً باعتبارها "سلعة" في "إقتصاد المعرفة"، حيث تنتَج المعرفة وتنشَر لأغراض اقتصادية، وتسخر لخدمة القدرة التنافسية للمنشآت الاقتصادية، ما يؤدي إلى إعادة تنظيم شاملة لإنتاج ونشر المعرفة وفقاً لمعيار السوق ومنطق الشركة. إنّ الأولوية المعطاة للبحث التطبيقي والمسارات المهنية، وكذلك التركيز المتزايد لسياسات التدريب والتعليم العالي على التسويق والمعلوماتية والتدبير الإداري، يؤديان أيضاً إلى التركيز على المجالات ذات الأهمية القصيرة المدى (تغليب المصلحة الفورية). ويمكن القول إنّ واحدة من أهم المشكلات الناتجة عن خصخصة مراكز البحث تتجلى في أنّ الأبحاث المنتجة توفر بيانات محدودة ليس لها مرجعيات وأطر نظرية، تستطيع توليد أفكار وسياسات بديلة .
إنّ إعتماد إتجاهات خصخصة التعليم العالي والبحث العلمي ليست حكراً على الأردن. ففي معظم دول العالم، يشهد البحث في العلوم الاجتماعية تحولات جذرية في ظل "الروح الجديدة للرأسمالية" والتي تُظهر مدى هيمنة الحقلين الاقتصادي والسياسي. فسياسات البحث التي تضعها الجهات الحكومية ومؤسسات التعاون الأجنبية تعكس اهتمامات الممولين الدولية والتجارية. ومن ثم، فقيام الجامعة بدورها الإجتماعي بإستقلالية رهين بتقلبات السياسة الدولية أيظاً. كما أنّه يتعزز في منطقة الشرق الأوسط الإفتراض بنهاية الجامعة كفضاء عمومي. حيث يطغى النموذج السياسي على حوكمة الجامعات العربية بشكل عام وتنحسر الحريات الأكاديمية وتضيق آفاق المشاركة، وتتعثر سبل توليد الأفـكـار الجديدة الـضـروريـة للتغيير الاجـتـمـاعـي.
وهنا لا بد من بيان أنّ تداخل محاور البحث بين مراكز البحث والمنظمات الدولية يؤدي إلى إعتماد دائرة ضيقة من الباحثين، تشتغل في الوقت ذاته بالتدريس، وتقدم المشورة للجهات الحكومية، وترتبط بمؤسسات التعاون الدولية، ما يجعل غالبيتهم باحثين "تحت الطلب". وهذا أمر يفضي إلى إضفاء الشرعية على التوجهات الحكومية، وعلى خيارات النخب الإدارية.
الدكتور هيثم عبدالكريم أحمد الربابعة
أستاذ اللسانيات الحديثة المقارنة والتخطيط الللغوي