زاد الاردن الاخباري -
"لم أعد أُصدّقك بعد الآن"، هذا ما أكرّره، مرارًا وتكرارًا، عندما يتمسّك ذهني بقصصه السطحية ويحاول أن يجرني معه، في كل مرة يتوه أكبح جماحه وأعيده إلى النظام: "لم أعد أصدقك!".
الكثير من الناس لا يدركون كل هذه القصص التي يصنعها الذهن باستمرار في رؤوسهم ويأخذونها على أنها الحقيقة، فهل سبق لك أن توقّفت عن الاستماع إلى كل ما يخبرك به الذهن بلا انقطاع، من استيقاظك صباحًا إلى موعد نومك ليلًا؟
هلوسات الذهن
الذهن، وفقًا لتقرير نشره موقع "conscience-et-eveil-spirituel" لا يكف عن صنع أخيلة يظنُّها وقائع في حين أنها اختلاق ذهنيّ، فهو لا يتوقف عن إصدار الأحكام طوال الوقت، وعن التعليقات.
وغالبًا ما يصنع روابط غير متماسكة، ويُسقط مشاريع خيالية على المستقبل، ويجتر الماضي، ويحمل الضغائن، ويُجري مع نفسه حوارات خيالية، محتملة، يعطي نفسه فيها الدور الجميل، أو دور الضحية، أو دور البطل الخارق، أو البطل المرشد والواعظ.
عندما نعاني من متلازمة "المحتال الماكر"، عندما نخاف من أن نخيّب غيرنا، عندما نشعر بالقلق، عندما نشعر بالدونية أو التفوق، فإنّ أذهاننا دائمًا هي التي تلعب دور كاتب السيناريو الفاشل والسطحي.
لا تصدّق ذهنك حين يتمسك بقصص واهية
دراسة: انتظام ساعات النوم يمنع أمراض القلب ويطيل العمر
شخص عزيز لا يعاود الاتصال بنا، هنا وعلى الفور يبدأ الذهن في اختراع السيناريوهات: "هل هو غاضب؟"، "ماذا فعلتُ في حقّه؟"، "ربما كان يجب ألا أقول ما قلته في المرّة السابقة؟"، "إذا لم يعاود الاتصال بي فذلك لأنني لست عنده مُهِمًا بما يكفي".
وأيضًا: "يا له من شخص جاحد، أنا الذي لم أبخل عليه بأي شيء!"، "إنه ينتقم لأنني لم أتصل به مرّة أخرى فور المرّة الأخيرة" "الناس كلهم سواء: غير مخلصين وغير جديرين بالثقة، وأنانيون"، "من يدري، ربما يكون قد تعرّض لحادث"، "ربما يكون قد ذهب في رحلة دون أن يخبرني".
بالإضافة إلى مئات القصص الأخرى، وكل واحدة منها خاطئة أكثر من التي تليها.
وتجلب كل واحدة من هذه القصص نصيبها من الانفعالات، مثل: القلق، والغضب، والإيذاء، والخوف، والشعور بالإهمال والرفض، إلخ.
تصديق الوهم أسوأ ما في الأمر
الغريب هو أننا في نهاية المطاف نحتفظ ونتمسك بواحدة أو أكثر من هذه القصص ونصدّقها!
وهنا بالضبط نؤذي أنفسنا، كل هذه السيناريوهات الخيالية ليست حقيقية، الشخص العزيز علينا لم يتصل بنا، نقطة إلى السطر، تلك هي الحقيقة. لا يوجد شيء آخر يمكن أن نضيفه، عندما يعود الذهن إلى عادته السيئة علينا ألا نصدقه، وأن نقول له: "كفى هذرًا!"
عندما نعاني من متلازمة "المحتال الماكر"، عندما نخاف من أن نخيّب غيرنا، عندما نشعر بالقلق بشأن موقف أو شخص، عندما نشعر بالدونية أو التفوق، عندما ننسب النوايا إلى الآخرين، عندما نسترجع أحداث الماضي المؤلمة، عندما نتوقع المستقبل، عندما نشعر بالرفض أو أي تفسير آخر لِما يبدو أنه يحدث في حياتنا، فإنّ أذهاننا دائمًا هي التي تلعب دور كاتب السيناريو الفاشل والسطحي.
وهذا هو الوقت المناسب، في كل مرّة لنقول له بصوت عالٍ وواضح: "لم أعد أصدّقك!"، "أنا لا أصدقك بعد الآن!" يضع العقل في مكانه: أنت أيها الذهن في خدمة الوعي وليس محاولة أن تكون أنت سيّده.
والذهن قائم وموجود ولا غنى عنه للأشياء العملية في حياتنا اليومية، لكن لا ينبغي أن يهيمن على حياتنا، وقولُ: "أنا لا أصدقك بعد الآن!"، يقطع تدفّق قصصه المصطنعة، ويترك مجالًا للوعي النقي للتعبير بحرية، كل قصة جديدة يبتكرها الذهن معاناة إضافية في حياتنا، وليس الأمر هيّنًا على أي حال!
عندما نتوقّف عن تصديق أذهاننا، ووساوسها، وسيناريوهاتها الواهية، فإننا نتيح لأنفسنا أن نسترشد بحكمة الحياة، ونثق بها تمامًا، ونعلم أن كل شيء هو كما ينبغي أن يكون.
لا بد من إنهاء المقاومات، لا بد من إنهاء الكفاح والمعاناة، لا بد من إنهاء الأحكام. تشير نهاية المقاومة أيضًا إلى نهاية "الإيجو"، أي الأنا المتضخمة التي تتكوّن من المقاومات.
الترحيب هنا والآن
كما قال المفكر الفرنسي بيير ليريه جيليميه في كتابه "الصحة في قلب الحضور" L'Éveil au cœur de la Présence: "إذا كان المرء قادرًا على التخلي عن ذهنه، والاعتماد على الحياة، فإنّ جميع أشكال التحكم التي تضعها الشخصية الصغيرة (الأنا المتضخمة) لحماية نفسها ستنهار في النهاية".
وهكذا نصبح إذن في عالم الترحيب، الترحيب الحقيقي بما هو موجود هنا والآن، وهذا اسمُه السلام