لم أرَ جلالة الملك غاضبا، كما كان في ذلك اليوم قبل أكثر من عام. التقينا جلالته صباحا، بعد أن كان في زيارة إلى لندن سمع في أثنائها عن حبس رئيس تحرير صحيفة أسبوعية. يومها طلب الملك ألا يحبس أي صحافي على رأي، وأرفق ذلك باتخاذه إجراءات طاولت السلطة القضائية. يومها وقفت على الغضب النبيل للملك الذي كان متأثرا لأن صحافيا يسجن في مملكته لأنه عبّر عن فكرة، أو أساء تقدير موقف، أو تهجم، أو انتقد، أو اتهم، أو أرغى، أو أزبد.
الملك قالها بعبارة لا لبس فيها ولا تأويل: لا أريد أن أرى بعد اليوم صحافيا يحبس بسبب آرائه.
..ظل ذلك اللقاء المشبع بالدلالات يلحّ على ذاكرتي كلما رأيت الأيام تتقدم، وقضبان سجن الجويدة تتآلف مع جسديْ الزميلين موفق محادين وسفيان التل اللذين صودرت حريتهما لأنهما عبّرا عن رأيهما، الذي أختلفُ معه ومع حدته ومنظوره المتطرف.
لا يليق ببلدنا أن يَسجن ناشطا لأنه قدم رؤيته الصادمة والمعاكسة لأشواق المجتمع، أو لأنه شكك في قدرات الأجهزة الأمنية، أو خدش كرامة الجيش أو أساء إلى تاريخه، على الرغم من أن من يرتكب هذه الأفعال يضع نفسه على الطرف النقيض من آمال شعبه ووجدان مواطني بلده. ورغم ذلك لا يتعين أن نهدد، بعد أن زججنا بالتل ومحادين في السجن، بقطع لسانيهما، لأننا، إذ نفكر في فعل ذلك، ننحدر إلى مزالق تهدد منجزنا الإنساني، ومسيرتنا المتسامحة التي قاد ركبَها الهاشميون في الأردن والذين لم يعرف عنهم أنهم أعدموا سياسيا، حتى لو كان انقلابيا، بل إن بعض هؤلاء الانقلابيين أضحوا وزراء ومسؤولين يقطر الوعيد والتهديد من أفواههم الملأى بالرغاء.
وبي حاجة ماسة للتذكير بعبارة فولتير، أحد أبرز مفكري عصر التنوير الأوروبي: "قد أختلف معـك بالرأي، ولكنني أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعـبير عـن رأيك"، فهذه العبارة كثفت رؤى الإصلاح التي نقلت أوروبا من كهوف الظلام إلى عصور الأنوار والمدنية.
أدركُ أن من أقاموا الدعوى على محادين والتل، صدروا عن وجع وألم وخدْش في الكرامة الوطنية، لكنني أدرك أن بقاء هذين الناشطين قابعيْن وراء القضبان الباردة أشد وجعا على الأردن وعلى أهله الذين لطالما تسامحوا مع إساءات أشد وطأة، وغفروا، وتركوا للنسيان أن يبرئ الأثلام والجروح.
ليقدم محادين والتل إلى المحاكمة، وليأخذ القضاء العادل النزيه مجراه، وليكن الفيصل قبة قصر العدل الذي شعاره المساواة والنزاهة. أما أن نقص ألسن المختلفين ونهدد بسمل عيونهم، فذلك ما لا نسمح به، ولسوف نبقى ندافع عن قيم حرية الرأي والتعبير التي سقفها السماء، حتى نكون جديرين بالإصلاح الذي وعدنا به جلالة الملك، عميد البيت الذي ضم تحت جناحيه المعارضة والموالاة، وحلق بهما في فضاء العزة والتسامح.