زاد الاردن الاخباري -
قضى هنري كيسنجر الخمسين عامًا من سنَواته الأخيرة في التّنظير لخطر التقارب الروسي- الصيني على الهيمنة الغربيّة على العالم، واحتلّ العناوين الرئيسيّة ودخل التاريخ بقيامه برحلةٍ سريّةٍ إلى بكين عام 1971 نجحت في جذب الصين إلى الخندق الأمريكي، وإبعادها فِعلًا عن روسيا التي تجمعهما معًا العقيدة الشيوعيّة، ولكن تصريحاته الأحدث التي تتحدّث عن التطوّرات الرئيسيّة، والصّراع الحالي على عرش العالم، وبُروز عالم مُتعدّد الأقطاب، أثبتت أن الرّجل الذي بلغ 99 عامًا من عُمُره ما زال يعيش على الماضي، لأنّ معلوماته وآراءه انتهى عُمُرها الافتراضي، وباتت قديمةً وفاقدة الصّلاحيّة، وهذا لا يُعيبه فلِلعُمرِ أحكام.
نقول هذا الكلام بمُناسبة أحدث تصريحات أدلى بها إلى صحيفة “الموندو” الإسبانيّة وحذّر فيها من أن الحرب الباردة الثانية قد تبدأ بين الصين وأمريكا، وستكون أكثر خُطورةً من الأولى بين أمريكا والاتحاد السّوفييتي، وهي تصريحات تؤكّد ما ذكرناه في مُقدّمة هذه الافتتاحيّة من أن هذه الفتاوى والتّصريحات تفتقد إلى الارتِكاز على قراءةٍ صحيحةٍ مدعومةٍ بالمعلوماتِ الدّقيقة، عن الصّراع الصيني الأمريكي المُتأجّج حاليًّا، والحرب الأوكرانيّة وتطوّراتها الميدانيّة، والتّقارب الصيني- الروسي المُتزايد.
كيسنجر يقول إن الحرب الباردة بين أمريكا والصين قد تبدأ قريبًا، وربّما تكون أكثر خُطورةً، وهذا تحليلٌ غير دقيق، لأنّ ما يجري حاليًّا هو حربٌ أقرب إلى السُّخونة بين القُوّتين، وتتجاوز الحرب الباردة بمراحل، فها هي الصين تُوقّع اتّفاقات تعاون استراتيجي عسكري واقتصادي مع روسيا أثناء الزّيارة التاريخيّة التي قامَ بها الرئيس الصيني تشي جين بينغ لموسكو الأُسبوع الماضي وعقده لقاءً مُغلقًا مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين لِما يَقرُب من الأربع ساعات وسط مخاوف في أوساط القِيادة الأمريكيّة العُليا من اتّفاقِ توريد الصين أسلحةً مُتطوّرةً لروسيا لدعمها في الحرب الأوكرانيّة.
الصين دخلت إلى بوّابة الشّرق الأوسط بكُلّ قوّةٍ عبر رعايتها للاتّفاق السعودي- الإيراني، وإخراج أمريكا ونُفوذها من المِنطقة، وباتت الأكثر نُفوذًا في القارّة الإفريقيّة التي تسلّلت إليها عبر المُساعدات والقُروض الماليّة وتمويل مشاريع البُنى التحتيّة العِملاقة، وأصبحت تملك قوّةً عسكريّةً واقتصاديّةً جبّارة، وقيادةً ذكيّةً ممّا يجعل حربها باردةً كانت أو ساخنة، مُختلفةً كُلّيًّا عن نظيرتها الأُولى بين أمريكا والاتّحاد السوفييتي وقِيادته الهرمة، واقتِصاده المُتهالك، وهي الحرب التي انتصرت فيها أمريكا بتقويضِ خصمها السوفييتي عبر استِنزافه من الدّاخل، واقتصاديًّا على وجْه الخُصوص.
كيسنجر تراجع عن مُعظم تصريحاته ومواقفه السّابقة تُجاه الحرب الأوكرانيّة، وخاصّةً تلك التي طالب فيها أوكرانيا بالحِياديّة وعدم الانضِمام إلى حلف الناتو، والتّنازل عن بعض أراضيها في شِبه جزيرة القِرم ومِنطقة دونباس في شرقها، وبات يُبرّر هذا التّراجع بالقول إنّه أراد بطرح هذه التّنازلات تجنّب اجتِياح روسيا لأوكرانيا عسكريًّا، وما دامَ هذا الاجتِياح قد تم، ومرّ عليه عام، فإنّ انضِمام أوكرانيا لحِلف الناتو بات مشروعًا وضروريًّا.
التحالف الاستراتيجي الروسي الصيني يتعزّز يومًا بعد يوم، وهدفه الرئيسيّ الإطاحة بأمريكا والغرب عن عرش الهيمنة على العالم اقتصاديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا، وجرى السّير على هذا الطّريق خطوات مُتسارعة، وباتت منظومة “البريكس” تحالفًا جديدًا يُعيد بناء حِلف وارسو المَقبور على أُسسٍ جديدة ربّما أكثر قوّةً وصلابةً من حِلف الناتو وتكتّل الدّول السّبع الاقتصاديّ الغربيّ.
خِتامًا نقول إن كيسنجر الذي ما زال نُقطة جذب مغناطيسي للكثير من صحافة العالم الغربيّ التي تسعى للاستِعانة بآرائه، يحتاج في رأينا إلى تجديد معلوماته وآرائه لأنّ النظريّات التي كانت تَصلُح عام 1971 لم تَعُد تَصلُح عام 2023، وإن الصين التي عرفها في ذلك الوقت الذي كان يعيش شعبها على ثلاث وجبات من الأرز المسلوق، وإنجاب طِفل واحد فقط، ليست الصين اليوم التي تحتلّ المرتبة الأولى على سُلّم الذّكاء الاصطناعي، وتملك صواريخ أسرع من الصّوت، وأكبر قوّة بحريّة مُتطوّرة في العالم.
“رأي اليوم”