قبل أكثر من 1400 عام من اليوم كان المسلمون صفاً واحداً يقفون خلف قائدهم في معركة بدر، محققين أول نصر للجيش الإسلامي مقابل جيش كان يفوقهم عدداً وعتاداً بل وحتى استعداداً، فماذا حدث معهم في المعركة الثانية؟
كان عدد جيش المسلمين في ثاني حروبهم في معركة أحد أكثر من ثلاثة أضعاف عددهم في أولى معاركهم، إلا أنهم برغم ذلك لم يتمكنوا من تفادي مرارة الهزيمة، فما الذي حدث يومها؟
كلمات بسيطة تناقلها الجند بينهم حتى انتشرت كالنار في الهشيم، لتنشر الفوضى بينهم وتبعثر التزامهم بأوامر قيادتهم، ما تسبب بهزيمة المسلمين في المعركة برغم كل استعدادهم لها، فماذا كانت تلك الكلمات وهل كانت بالفعل بتلك الأهمية والأثر؟
كانت تلك الكلمات ببساطة ربما أول إشاعة ذات أثر جسيم تسببت في أول هزيمة مريرة للمسلمين راح بسببها العشرات من الشهداء من خيرة رجال المسلمين رحمهم الله، عندما كان فحواها أن قائدهم في المعركة النبي محمد صلى الله عليه وسلم قتل في المعركة بينما كان عليه الصلاة والسلام مازال ثابتاً في قلب المعركة يقاتل جنباً إلى جنب مع كبار الصحابة، ولكن هذه المعلومة التي نقلت للأسف من جندي لآخر دون أي يتثبت منها، كانت سبباً رئيسياً في النهاية لانهيار الجيش وهزيمته في المعركة، وليبرز لنا هنا دليلاً ساطعاً على أثر نشر المعلومة دون التثبت منها وما يمكن أن تتسبب به، ما يؤكد للجميع أهمية الكلمة والنطق بها دون التحقق منها، ولماذا كانت يمكن أن تهوي بالإنسان في الويلات عندما ينطقها وهو لا يلقي لها بالاً، مستذكرين قول الله عزوجل في كتابه العزيز في الآية 36 من سورة الإسراء:{ولا تقف ما ليس لك به علم}، ما يظهر أهمية خلق الانسان بأذنين وفم واحد ليسمع ويتثبت مرة ومرتين قبل أن ينطق بلسانه، وأن يجتهد في أن لا يزيد كلامه الذي ينطق به عن نصف ما يسمعه في أكثر الأحوال.
ونعود لمثال آخر على تأثير الإشاعات ونشرها بين أفراد المجتمع، لنتوقف عند تلك الإشاعة التي استمرت أكثر من 40 عاماً يتناقلها الكثير من البشر على أنها حقيقة لا نقاش فيها، لتصبح بعدها أشهر كذبة في مجال الحفريات والآثار والأبحاث العلمية، عندما تم تقديم بقايا عظام متحجرة على أنها تعود للإنسان الأول، وكانت تتألف من عظام فك وأجزاء من جمجمة جمعت في عام 1912م من منجم حصى في بلتداون شرق ساسكس في إنجلترا، وقد أعطي لهذه العينة اسم الانسان الفجري وظلت أهمية هذه القطع المتحجرة موضع جدل حتى سطعت الحقيقة في العام 1953م، عندما تبين أن هذه القطع ما هي إلا قطع مزورة تم تركيبها عمداً وأن الفك السفلي هو لقرد الغاب وبقايا الجمجمة تعود لجمجمة إنسان حديثة، ولا تستغرب عندما تعلم أن المتسبب الأول بنشر هذه الكذبة مجهول حتى يومنا هذا!
وربما يطول الكلام إذا ما أسهبنا في سرد الأمثلة على أثر النشر بلا تثبت، وهو ما يمكن أن يتعرض له يومياً أي شخص بيننا عندما يجلس بجانبه من يقسم الأيمان المغلظة على صحة ما ينقل من معلومات، وهي في الحقيقة ليست أكثر من معلومة التقطها وهي تتطاير دون بذل أي جهد في البحث عن مصدرها أو معرفة حقيقتها، ولذلك كان من المهم إتقان فن نشر المعلومة، والتوقف كثيراً عند سؤالنا لأنفسنا "ترى هل أنشر؟" قبل نشر أي معلومة مهما صغرت أو كانت بلا أثر من وجهة نظرنا، خصوصاً لمن يعملون في الإعلام أو يتعاملون معه، وحتى لا يكون أحدنا مجرد جسر عبور لكل معلومة شاردة وواردة لا أصل لها يمكن أن تأخذ المجتمع بأكمله إلى الهاوية في بعض الأحيان بسبب كلمات بسيطة لم نحسب لها حساباً.