كلما جلست إلى أناس أحدّثهم أو يحدثونني، ويتطرق الحديث بيننا إلى أحوال البلاد والعباد في الجامعة؛ صبّ كلامهم في الحديث عن الفساد، وكلما مررت في الشوارع والطرقات في الجامعة، وإسترقت السمع حيناً، وتجاذبت أطراف الحديث حيناً آخر مع أولئك الأفراد وأساتذة الجامعات، سمعت كلمات من قبيل "ذبحنا الفساد"، " والجامعة في خطر، والجامعة مديونة".
والمثير للجدل أن أولئك الأفراد مهما كانت مكانتهم -من النخب وصناع القرار أو المثقفين وأساتذة الجامعات أو من عامة الناس- فإنهم دوماً يظهرون إستياءهم وإمتعاضهم الشديد من الحال التي وصل إليها المجتمع من الفساد، ولكنهم في كل مرة يضعون أنفسهم خارج الحسبان، وبعيداً عن الدائرة، في كل مرة يتحدثون إليك وينطقون بالعبارات التي تلقي باللوم على الآخرين، وتظهر المتحدث بدور المدافع المناضل الشريف الذي لا يروقه الوضع، ولكنه لا يملك من الأمر شيئاً، في كل مرة تحسب لأول وهلة أنهم شرفاء، ومن كل ما يحدث هم براء، وكأنهم يجلسون في المدرجات ويقفون موقف المتفرج الذي لا يملك إلا الأمل والدعاء، وقد نسوا أنهم ليسوا خارج الدائرة، بل هم من يشكّلون التفاعلات داخل الدائرة، وهم اللاعبون الأساسيون.
إن أستاذ الجامعة الذي لا يجيد مادته العلمية فاسد، وأستاذ الجامعة الذي يستغل طلابه ويهددهم بالرسوب فاسد، وأستاذ الجامعة الذي يتحدث عن أزمة العلم ثم يشارك في ترسيخ الأزمة عن طريق منح الدرجات لمن لا يستحقها فاسد، وأستاذ الجامعة الذي لا يكتب ولا يبحث أكثر فساداً، الموظف المرتشي فاسد، والموظف غير المرتشي فاسد؛ لأنه سكت على فساد زميله، والراشي (الذي يدفع الرشوة) فاسد، والمدير المتستر على ذلك أكثر فساداً، والوزير غير المهني فاسد.
فالفساد درجات: فهناك صانعو الفساد: الذين أصبح فسادهم كالماء والهواء؛ يستنشقون فساداً ويشربون فساداً، وهناك الفاسدون بالتكيف؛ أولئك الأفراد الذين أجبرهم المجتمع على الفساد، فكلما تحركوا في دوائرهم الضيقة في العمل أو الدوائر الواسعة في المجتمع، وجدوا الفساد في كل مكان، فتكريم وتبجيل وتعظيم للفاسدين ولا عزاء للشرفاء والمحترمين؛ فتقلدوا الفاسدين حتى يكونوا من المنُعمين عليهم.
وهناك الفاسدون بالإستعداد، أولئك الأفراد الذين لديهم إستعداد نفسي لأن يكونوا فاسدين، ولكنهم مترقبون لتلك الفرصة، وهناك الفاسدون بالتشجيع، أولئك الأفراد الذين يشجعون الفاسدين على إفسادهم، فنجدهم يعتبرون الرشوة "فهلوة"، "وقضاء المصالح بالطرق الملتوية "تفتيح".
إن الجامعة تحولت إلى موطن تسيطر عليها الأحزاب و التكتلات والمحسوبيات المتغطرسة ، فلا يتم تعيين أو ترقية أي موظف أو أستاذ من دون مباركة هذه الأحزاب والمحسوبيات الفاسدة، والسفرات والندوات والبعثات، كلها لإصحاب الحظوة من المقربين لهذه الأحزاب.
أبعدوا الفساد عن الجامعات، حافظوا على صورة الأستاذ الجامعي، الوطن لن يستفيد شيئا مذكورا من فاسدين إنتزعوا مصالح ليست من حقهم. من يبدأ حياته فاسدا سوف يبقى فاسدا ومفسدا. لا تغتالوا القدوة الحسنة أينما ظفرتم بها. التوريث أضعف أنظمة، وقوِّض مجتمعات، ودمر شعوبا. حافظوا على الحد الأدنى من الكرامة والطهر والنقاء والضمير.
كم هى المناسبات التى يرتدى فيها الحيتان قفاز الشرف وثوب العفة والنزاهة ويرفعون لواء محاربة الفساد وفى حقيقة الأمر هم رأس الدبور الذى يدير ويخطط لإمبراطورية الفساد والإجحاف.
الدكتور هيثم عبدالكريم أحمد الربابعة
أستاذ اللسانيات العربية الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي