يعتقد أغلب المسؤولين والنخب السياسية في الأردن أن العمل الأكاديمي والبحث العلمي مجرّد ترف أو من قبيل الكماليات الأكاديمية فوق نشاط الجامعة، أو أنه إنفاق إضافي عبثي، لأن رجل السياسة والوزير والنائب في البرلمان ليسوا بحاجة لهؤلاء “المتفلسفين” أو الذين لا يفقهون السياسة ولا صنعة الحكم حسب تصوّرهم.
قبل أعوام، قرّر أستاذ الفلسفة السياسية مايكل ساندل في جامعة هارفارد تقديم محاضراته في مادة “العدالة” مجانًا عبر الأنترنت وشاشات التلفزيون، ليتابعها الطلاب في الهند والصين واليابان وجنوب أفريقيا وبقية دول العالم. فأصبح “الشخصية الأجنبية الأكثر تأثيرا في الصين” حسب تصنيف مجلة “تشاينا نيوزيوك” قبل عامين. هكذا تتداخل المعرفة عضويا مع القوة، ويتحرك البحث العلمي في تكريسها عبر الأجيال والجغرافيات وفي ثنايا العلاقات بين الدول، مما يزكّي مقولة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو حول جدلية المعرفة والقوة.
نعود إلى رحاب الجامعات الأردنية حيث تكثر المفارقات بين خليط غريب من الأساتذة الذين يتمسك بعضهم بإستقلال ورصانة البحث العلمي، وبعضهم الآخر يستخدم المنصب وما ينطوي عليه للتقرب زلفى من دوائر معينة في العاصمة عمان. في المقابل، إذا ركزنا على مبدأ صيانة الصرامة العلمية لمعرفة سر تفوق الجامعات الأمريكية، يقول سيتفن بْرِيتْ أستاذ السوسيولوجيا والسياسات العامة في جامعة كاليفورنيا - الأمريكية إن “نجاح التعليم العالي في الولايات المتحدة يتجاوز نجاح عشرين جامعة أمريكية تهيمن على تصنيف أفضل الجامعات في العالم، بل “أصبحت الغالبية العظمى من مؤسساته من أفضل 200 جامعة تتولى البحث العلمي أقوى من أي وقت مضى، وقد أظهر النظام الأمريكي برمّته مرونة مذهلة بين مراحل الركود ومراحل التوسع على حد سواء،” كما يقول في كتابه بعنوان Two Cheers for Higher Education: Why American Universities Are Stronger than Ever — And How to Meet the Challenges They Face “هُتافان للتعليم العالي: لماذا أصبحت الجامعات الأمريكية أقوى من أي وقت مضى، وكيف تواجه تحدّياتها؟” حول عن تقييم نظام التعليم الجامعي الأمريكي منذ عام 1980.
إنّ البنيات والغايات التقليدية لدى الجامعات الأمريكية تهدف إلى إحراز نتيجتين: أوّلهما، توسيع المعرفة بشكل أساسي ليس في التخصصات المتداولة فحسب، بل في التقاطعات بينها. وثانيهما، تطوير القدرات المعرفية للطلاب وتعميق معرفتهم بموضوع الدراسة. وشهدت الجامعات حركتيْ تغيير إجتاحتاها بقوة كبيرة، تمثلت إحداهما في دفع الأبحاث الجامعية نحو تعزيز التنمية الإقتصادية من خلال إختراع تقنيات جديدة ذات إمكانات تجارية. أما الحركة الثانية فاستهدفت دفع الجامعات للعمل كأدوات للإدماج الإجتماعي، وتوفير الفرص للمجموعات المهمشة، بما في ذلك النساء والأقليات العرقية. كان هذا التوجه بإيعاز من قبل أطراف خارجية مثل منتدى التعليم العالي للأعمال، والمؤسسات الخيرية الكبرى، ودوائر الحرم الجامعي التي استفادت من تكريس تلك القضايا الاجتماعية.
يستدعي تفكيك تراجع الجامعات الأردنية كمثال على بقية الجامعات العربية إعادة التركيب، أو الفصل والوصل، بمقومات إصلاح تجريبية ومقارنات موضوعية من أجل توجيه مآلها في السنوات والعقود المقبلة. فتعفّنُ السّمكة من الرأس بسبب خطايا سماسرة المعرفة وبيروقراطية الوزارة يؤدي لا محالة إلى مضاعفات المرض في بقية الجسم الفكري والتربوي والسياسي الأردني. ومما يزيد في الطين بلة، وقوف جلّ المثقفين الأردنيين موقف المتفرج أمام تردّي الجامعة وهزالة البحث العلمي الوطني، بل إنقسموا إلى فريقين: فريق دخل مرحلة الغياب الإختياري كمن يدفن رأسه في الرمل إسوة بإستراتيجية النعامة. هم يفضلون الإنزواء على أنفسهم ولا يحركون المياه الراكدة التي تسترخي لهجمة العفن الثقافي، فأصبحوا دعاة العقل المستقيل. وفريق آخر يغازل الدولة وكبار المخزنيين في حقبة الإسترزاق والرقص على الإيقاع المطلوب وموّال السلطوية وتعبئة الجماهير.
إن ” التقرّب زلفى من العاصمة عمان هو سبب إنحدار الجامعات الأردنية.” “إذا تسيّس البحث العلمي، خسر البحث العلمي وخسرت السياسة أيضا..!” وينبغي أن تستعيد الجامعة ماهيتها وغايتها بأن تكون فوق السياسة وتحيد عن هوى كل المؤسسات والتيارات والأحزاب والمصالح الضيقة. ولا يمكن لفلسفة الجامعة أن تحقّق إلاّ مؤسسةَ نقدٍ وتقييمٍ وتقويمٍ وإبتكارٍ، تسائل الوضع القائم من أجل تركيب رؤى جديدة. ولا ينبغي أن تكون فلسفة الجامعة معيارية أو قومية تُجاري الخطاب السياسي في أي مجتمع. وهذه مسألة تستحضر طبيعة العلاقة بين الأردنيين والعلم والتفكير النقدي، وحرية التفكير، والمسؤولية الروحية لقيم المجتمع.
الدكتور هيثم عبدالكريم احمد الربابعة
أستاذ اللسانيات الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي