في عام 1917 حينما كانت الحرب العالمية الأولى على أشدها، وهي الحرب التي غيرت وجه العالم القديم ودشنت بدايات التحول في شكل العالم كما نعرفه اليوم بقضاياه الاجتماعية والاقتصادية وحدوده السياسية وحروبه العسكرية، حدث ما كان يُشكّل أشد كوابيس بريطانيا منذ عام 1914 وهو احتمالية انهيار روسيا القيصرية شريكة بريطانيا في الحرب على ألمانيا والدولة العثمانية، حيث خرجت روسيا من الحرب العالمية الأولى مبكرا بعد نشوب ما عُرف تاريخيا بالثورة البلشفية.
وكما كان انهيار روسيا القيصرية وخروجها من الحرب عام 1917 ضربة قاسية وموجعة لبريطانيا وحلفائها، كان على الجانب الآخر تحققا لحلم أنور باشا، وهو الحلم الذي دفعه أن يقود الدولة العثمانية نحو دخول الحرب بجانب دول وسط أوروبا ، كما كان حينذاك نصرا هائلا ليس لألمانيا فحسب، بل لتركيا العثمانية أيضا.
لكن قبل خروج روسيا القيصرية من الحرب لتجعل فوز ألمانيا ومعها الدولة العثمانية وشيكا، وقبل أن تنتهج روسيا نهجا كارثيا اتخذ فيه المشرفون على الحكومة والمال والصناعة في روسيا مسارا متباعدا عن مصالح الشعوب الروسية عامة، مما مهّد لظهور احتجاجات وحشود ضخمة من العمال والجنود والنساء والشباب الجائعين والغاضبين على القيصر وحكومته، كان هناك شخص مغمور في أقصى يسار الحركة الثورية السرية المحظورة يعيش في زوريخ بسويسرا، قد توقع نشوب تلك الأحداث، هذا الشخص هو فلاديمير إيليتش أوليانوف، وقد انتحل في عام 1901 اسما مستعارا هو "لينين"، لكنه لم يكن معروفا سوى لدى الشرطة والأوساط الثورية.
كان يعيش لينين في عزلة بين جماعته السياسية نفسها وهي جماعة "البلشفيك" التي لم تفهم آراءه في الحرب حينذاك، وبينما راح كل شخص يؤيد بلده، كان لينين يعارض بلاده روسيا، ويدعو لسقوط دولة القيصر الروسية وتحويل الحرب العالمية إلى حروب أهلية ضد الحكومات الرأسمالية، لكنّ أحدا لم يلتفت له في أوروبا كلها، إلا أن أحداثا غامضة في التاريخ ستنقل لينين من منفاه في زيورخ إلى بيتروغراد عاصمة روسيا حينذاك، ليصبح العنصر الحاسم في انتصار الثورة البلشفية وتأسيس نواة الدولة الشيوعية التي ستصبح فيما بعد الاتحاد السوفيتي.
كان تحسين حظوظ لينين وسماح ألمانيا له بالسفر إلى بتروغراد، ومن ثم انهيار روسيا وخروجها من الحرب، حدثا حيكت خيوطه داخل الدولة العثمانية نفسها، أما العقل المدبر لتلك الأحداث والذي جعل بريطانيا تظن أن العالم يعيش تحت رحمة مؤامرة كونية يهودية هي من جاءت بجمعية الاتحاد والترقي إلى الحكم في الدولة العثمانية، ثم جعلتهم يدخلون الحرب ضد بريطانيا، ثم دبرت انهيار روسيا وخروجها، ثم دبرت انتفاضات العالم الإسلامي بعد نهاية الحرب في مصر وفلسطين والعراق بجانب انقلاب رضا بهلوي في إيران، كان هذا العقل هو ألكسندر إسرائيل هيلفاند والشهير بـ "بارفوس".
بارفوس.. الرجل الذي كره روسيا
في بداية شهر سبتمبر/أيلول 1914 كتب لينين مسودات أطروحاته السبع عن الحرب، وقد دوّن فيها: "من وجهة نظر الطبقة العاملة والجماهير الكادحة من جميع شعوب روسيا، فإن أهون الشرين هو أن تُلحق الهزيمة بالنظام الملكي القيصري وجيشه، الذي يقهر شعب بولندا وشعب أوكرانيا وعددا من الشعوب الأخرى في روسيا"، كما ندد لينين في أطروحاته بالحكم الإمبراطوري الذي يمارسه الروس على الشعوب الأخرى التي يحكمها القيصر، فقد كان رغم جنسيته الروسية يرى أهمية الدعوة إلى هزيمة روسيا وتفتيت الإمبراطورية الروسية. ولأن لينين كان غير معروف إلا في الدوائر الثورية الضيقة، قام شخص آخر بنقل رؤيته الحالمة تلك إلى الواقع.
في الوقت نفسه، كان يعيش في القسطنطينية زميل سابق للينين، زميل له في قيادة الأممية الاشتراكية، وقد توصل هو الآخر إلى استنتاجات مماثلة، وهو ألسكندر إسرائيل هيلفاند، الذي انتحل اسما مستعارا هو"بارفوس" وكان يهوديا روسيا، وهدفه السياسي كما تقول الوثائق السرية المستمدة من المحفوظات الألمانية، والتي تم نسخها في كتاب "ألمانيا والثورة الروسية 1915-1918" هو تدمير إمبراطورية القيصر ، وبينما كان لينين يتخذ موقف المثقف المنظر والثوري الثرثار عن دور ألمانيا في هزيمة روسيا، كان بارفوس شديد الحماسة لانتصار الألمان، بجانب أنه كان يملك المال وله اتصالات سياسية مكّنته من تحقيق أغراضه ومساعدة ألمانيا.
ورغم أن بارفوس كان له نشاطات ثورية عديدة، والتي تمثلت في إحدى صورها بتوجيه ليون تروتسكي، ويرجع إليه الفضل في ظهور نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة، فإنه تخلى عن نشاطاته الثورية وعن أعمال دور النشر واتجه إلى أعمال تجارية متنوعة، وانتقل عبر فيينا إلى دول البلقان والإمبراطورية العثمانية حيث أبدى اهتماما بحركة تركيا الفتاة، وأخذ يتاجر بالحبوب وسلع أخرى، ومع حلول عام 1912 كان قد أنشأ صلة وثيقة مع مسؤولي حكومة تركيا الفتاة، وحصل بمساعدتهم على عقود لتأمين الإمدادات للجيوش العثمانية في حروب البلقان.
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى في أوروبا، نشر بارفوس مقالة في الصحف التركية قال فيها ناصحا الحكومة العثمانية: "إن مصلحتها تتحقق بانتصار ألمانيا"، وعمل أيضا على إثارة الشعور الموالي لألمانيا في دول البلقان. وعندما دخلت الدولة العثمانية الحرب ساعد بارفوس الباب العالي في الحصول على تموينات حيوية من القمح والآلات اللازمة للسكك الحديدية، وفي حين كان بارفوس يدخل كل تلك الصفقات بهيئة التاجر، كان بيته في القسطنطينية ملتقى دوليا للمتآمرين على القيصر كما يذكر زيمان وشارلو في كتابهما "تاجر الثورة"، ويعلق دافيد فرومكين صاحب كتاب "سلام ما بعده سلام": "كان هدفه تدمير حكومة روسيا".فقد كان بارفوس هو اليهودي الذي وقف بجانب ألمانيا.
اليهودي الذي دمر روسيا القيصرية
كان هيلفاند، قبل أن يتحول إلى تاجر، شخصية قيادية معروفة في الجناح اليساري للحركة الاشتراكية الثورية في شرق أوروبا، بيد أنه انسحب إلى الظل تدريجيا، وحفر لنفسه جحرا عميقا في جدار التحالف العثماني الألماني خلال سنوات الحرب، وحين سنحت الفرصة أطل برأسه وأدى رقصة الموت الممهدة للضربة القاضية، وبين عشرات الألغام زحف هيلفاند بين معارفه ساحرا أعينهم، فرتب لقاء بينه وبين السفير الألماني في الدولة العثمانية، وفي 7 يناير/كانون الثاني عام 1915 صافح هيلفاند السفير فون فانغينهايم وأخبره بصوت كالفحيح "إن مصالح الحكومة الألمانية متطابقة مع مصالح الثوريين الروس".
وسرعان ما ظهر مفعول السم في مجرى الدماء الألمانية الباردة، وبعد يومين من المصافحة أبرق السفير الألماني بتقرير عن ذلك الاجتماع إلى وزارة الخارجية الألمانية وذكر في تقريره أن هيلفاند أبلغه أن "الديمقراطيين الروس لا يستطيعون تحقيق هدفهم إلا عن طريق تدمير النظام القيصري الروسي تدميرا تاما وتقسيم روسيا إلى دول أصغر" ، وكان تتمة طقوس رقصة الموت نظرة البراءة التي صاحبت اقتراح هيلفاند بأن تساعده ألمانيا في توحيد الثوريين بتنفيذ برنامج هدفه تقويض الإمبراطورية القيصرية.
بذلك، كان العرض الذي قدمه هيلفاند أشهى بكثير من إمكانية رفضه، حيث أبدت الحكومة الألمانية اهتماما باقتراح هيلفاند، وفي نهاية فبراير/شباط 1915 خرج هيلفاند من جحره في إسطنبول، وتوجه إلى برلين لمقابلة مسؤولين في وزارة الخارجية، وقدّم لهم في التاسع من مارس/آذار "مذكرة تتضمن خطة واسعة لتقويض روسيا القيصرية عن طريق تشجيع الثوريين الاشتراكيين والقوميين، وقد تحدث مع الألمان عن لينين وعن جماعته من البلشفيك وقال لهم إن لينين وبعض أتباعه موجودون في سويسرا.. وهم جديرون بالدعم الألماني" ، وهكذا قدم هيلفاند لينين إلى الألمان.
لكن قبل أن يركب لينين القطار إلى روسيا، قوبلت مفاتحة هيلفاند الأولى مع رفاقه السابقين بالرفض والصدود، حتى إن روزا لوكسمبورغ -المنظرة والفيلسوفة الاشتراكية- عندما التقته في برلين لم تعطه فرصة للكلام وطلبت منه الانصراف، أما ليف دافيدوفيتش برونشتاين الذي سمى نفسه تروتسكي، فقد قال بأن "بارفوس كان في وقت من الأوقات شخصية مهمة وصديقا ومعلما، ولكنه تبدل في عام 1914 وأصبح الآن في حكم الميت سياسيا"، وقد وصف أحد زملاء بارفوس السابقين من الثوريين الاشتراكيين موقف هؤلاء من بارفوس فقال إنهم يعتبرونه "مخبرا روسيا ووغدا، وخائنا للثقة.. وهو الآن عميل تركي ومضارب في التجارة".
من هو بارفوس؟
أثناء وجوده في ألمانيا عمل بارفوس في مجال دور النشر، وأبرم صفقة مع الكاتب الروسي مكسيم غوركي لإنتاج مسرحيته "The Depths".
هو إسرائيل لازاريفيتش هيلفاند، وُلد لعائلة يهودية عرقيا في 8 سبتمبر/أيلول 1867 في منطقة بارازينوByerazino، داخل الإمبراطورية الروسية، وهي عائلة كانت من الطبقة الوسطى الدنيا حيث عمل والده كحداد. وعندما كان إسرائيل صبيا صغيرا تم تدمير منزل العائلة في بارازينو بسبب حريق، فانتقلت عائلة هيلفاند إلى مدينة أوديسا، داخل الإمبراطورية الروسية، التي أصبحت الآن جزءا من أوكرانيا، وهي مسقط رأس جدّ إسرائيل الأبوي.
تلقى ألكسندر الدروس في العلوم الإنسانية، وقاده حبه للقراءة إلى التعرف على الشاعر الأوكراني تاراس شيفتشينكو، والصحفي نيكولاي ميخائيلوفسكي، والسياسي الساخر ميخائيل سالتكوف شيدرين الذي قاد هيلفاند الشاب للبدء في التشكيك في شرعية النظام القيصري، وتحوله إلى ثوري معارض لنظام حكم روسية حينذاك.
وفي عام 1886، سافر هيلفاند البالغ من العمر 19 عاما من روسيا إلى بازل بسويسرا، وعاد إلى روسيا لفترة وجيزة في العام التالي، لكنه أصبح مراقبا من قِبل الشرطة السرية القيصرية لنشاطاته السياسية وقرر مضطرا مغادرة روسيا مرة أخرى للحفاظ على سلامته. وعندما وصل هيلفاند إلى سويسرا عام 1888، التحق بجامعة بازل، ودرس الاقتصاد السياسي، وتخرج بدرجة الدكتوراه في يوليو/تموز 1891 وكانت رسالة تخرجه تدور حول مقاربة ماركسية للاقتصاد السياسي.
وبعد حصوله على الدكتوراه قرر هيلفاند عدم متابعة حياته الأكاديمية، فسافر إلى ألمانيا وانضم إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وهناك تعرف على الصحفية الثورية روزا لوكسمبورغ، وقد عرفته على الوسط الثوري الماركسي، ففي عام 1900 التقى هيلفاند فلاديمير لينين لأول مرة في ميونيخ حيث أعجب كل منهما بالأعمال النظرية للآخر، وشجّع بارفوس لينين على البدء بنشر بحثه الثوري إسكرا.
خلال هذا الوقت طوّر هيلفاند مفهوم استخدام حرب دولية لإثارة ثورة داخل البلد، وقد أحيا بارفوس ذلك المفهوم من فكر كارل ماركس، وهي إستراتيجية "الثورة الدائمة". وقد نقل هذه الفلسفة إلى تروتسكي الذي قام بتوسيعها وتطويرها، فكانت هناك مناقشات واسعة حول مسائل "الثورة الدائمة" داخل الحركة الديمقراطية الاجتماعية في الفترة التي سبقت عام 1917، وهي المناقشات التي أنضجت أفكار لينين بخصوص انتصار الثورة البلشفية وتأسيس الحكومة الشيوعية في روسيا بعد ذلك.
وفي عام 1905، عاد بارفوس إلى سان بطرسبورج بأوراق زائفة، وكان في ذلك الوقت محسوبا على قادة الفكر الماركسي الاشتراكي في أوروبا الشرقية، لذلك، فعندما كتب مقالا استفزازيا في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه بعنوان "البيان المالي"، الذي وصف الاقتصاد الروسي بأنه على وشك الانهيار، تلقته الصحافة بكثير من الاهتمام، وتحت مظلة هذه الدعايات، حرض بارفوس السكان المحليين للاحتيال على البنوك، فألقت الشرطة الروسية القبض عليه (جنبا إلى جنب مع الثوار الآخرين مثل ليون تروتسكي)، وأثناء وجوده في السجن أصبح قريبا أكثر من أي وقت مضى للوسط الثوري، حيث زارته روزا لوكسمبورغ، وتم الحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات في سيبيريا، لكنه هرب مهاجرا إلى ألمانيا.
وأثناء وجوده في ألمانيا عمل بارفوس في مجال دور النشر، وأبرم صفقة مع الكاتب الروسي مكسيم غوركي لإنتاج مسرحيته "The Depths". ووفقا للاتفاقية، فإن غالبية عائدات المسرحية كانت تذهب إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي الروسي (وحوالي 25٪ إلى غوركي نفسه)، إلا أن غوركي اتهم بارفوس بسرقة 130000 مارك ألماني، وهو رقم مختلف عليه تاريخيا، وقد هدد غوركي بارفوس بالمقاضاة، لكن روزا لوكسمبورغ أقنعت غوركي بإبقاء الخلاف داخل المحكمة الخاصة بالحزب. وفي النهاية، سدد بارفوس لغوركي أمواله، إلا أن سمعته في دوائر الحزب قد تضررت وشعر بارفوس أن الحياة السياسية في ألمانيا قد ضاقت عليه فهاجر إلى إسطنبول.
حيث أمضى بارفوس خمس سنوات هناك وأنشأ شركة تجارة الأسلحة التي استفادت من حرب البلقان، كما أصبح مقربا من حكومة تركيا الفتاة. وفي عام 1912 أصبح رئيس تحرير الصحيفة اليومية (9) "Turk Yurdu"، وبجانب عمله التجاري، خطا بارفوس خطوته الخطيرة بالتقرب من السفير الألماني هانز فرايهر فون وانغنهايم، ومن هنا بدأ الدور التاريخي الأهم لبارفوس.
خطة سرية لإشعال الثورة الروسية
بعدما أقنع هيلفاند الحكومة الألمانية بخطته، وبعدما رفضه رفقاؤه السابقون من الاشتراكيين الثوريين ووصفوه بالعميل التركي، سعى هيلفاند لمقابلة لينين في المطعم الذي كان يرتاده عادة واتجه نحو الطاولة التي كان يجلس عليها لينين وجماعته لتناول الغداء، وفاتحهم في خطته وأهدافها ثم صحبهم عندما عادوا إلى الشقة التي كان يقطنها لينين، وهناك استفاض هيلفاند في الشرح، لكن بعد أن أصغى لينين إليه، صمت قليلا ثم اتهمه بأنه قد تحول إلى "شوفيني ألماني" وأمره بأن ينصرف وألا يعود مطلقا.
مع ذلك، لم يستسلم هيلفاند، وشرع بمعاونة أحد رفقاء لينين القدماء في وضع خطة تخريبية للتمهيد لثورة روسية كبرى تزيح القيصر عن عرشه، واتفقا على أن تكون استوكهولم قاعدة لعملياتهم، ورغم رفض لينين لخطة هيلفاند والقيام بطرده، تابع لينين ما يقوم به هيلفاند عن بُعد، بل إن ليوناردو شابيرو في كتابه "الثورات الروسية في عام 1917" ذكر أن لينين والحزب البلشفي تلقوا مالًا قدمه هيلفاند عن طريق بولندي وروسي كانوا أعضاء في الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وهو ما أنكره لينين فيما بعد.
وبدأ هيلفاند بتنفيذ خطته التخريبية، فأصدر جريدة ثورية تمولها الحكومة الألمانية، كما حاول أن ينظم إضرابا عاما في روسيا بدون مساعدة لينين وجماعته، ورغم أن الإضراب لم ينجح نجاحا كبيرا فإن هيلفاند نجح في دفع أكثر من 45000 شخص للنزول إلى شوارع بيتروغراد، لكي يعلنوا احتجاجهم على الحكومة الروسية، والتي كان يُعاني سكانها من نقص المواد الغذائية وارتفاع أسعارها منذ عام 1916، وانتشرت بها الإضرابات العامة، حيث حدث 1163 إضرابا كان من بينهم الإضراب الذي دبره هيلفاند، وقد كان أكثر من نصف تلك الإضرابات بدوافع سياسية أكثر منها اقتصادية، مما يعني أنها قد دخلت حيز الثورة، ولم تقتصر على مظاهرها الاحتجاجية.
فور وصول لينين إلى روسيا قام ومعه جماعته البلاشفة بالاستيلاء على السلطة بمساعدة مبالغ إضافية من الدعم المالي من هيلفاند والحكومة الألمانية.
وبعد نجاح الثورة الروسية وتنازل القيصر نقولا الثاني عن العرش لأخيه الدوق ميخائيل الذي امتنع بدوره عن الجلوس على العرش، أصبحت روسيا جمهورية تحكمها حكومة مؤقتة، كانت في البداية برئاسة الأمير لفوف ثم برئاسة ألكسندر كيرينسكي، بيد أن الوضع السياسي الخارجي ظل كما هو، وظلت روسيا شريكة في الحرب، بل إن الحكومة المؤقتة كانت تمتلك نفس النية السياسية والعداء للألمان والأتراك. وهذا ما جعل هيلفاند يعاود التفكير بأهمية لينين كسلاح مدمر يمكن استخدامه لتغير الوجهة السياسية لروسيا وانسحابها من الحرب، فقد كان لينين هو من يملك قَناعة تُوافق هيلفاند بضرورة خروج روسيا من الحرب وتفتيت الإمبراطورية الروسية.
وحين كان لينين يقبع في زوريخ معزولا عن المشاركة في الأحداث الكبرى التي تقع في روسيا، بينما رفقاؤه في بيتروغراد قد أخطأوا في فهم ما يريده منهم والأحداث السياسية تجري في مسار مخالف لتوقعاته، فقد دفعته فورة الحماسة والغضب للموافقة بناء على طلب من هيلفاند على التعاون مع هيئة الأركان العامة الألمانية، التي وضعته فورا ومعه رفيقه غريغوري زينوفييف على متن قطار متجه إلى بيتروغراد، وفور وصول لينين إلى روسيا قام ومعه جماعته البلاشفة بالاستيلاء على السلطة بمساعدة مبالغ إضافية من الدعم المالي من هيلفاند والحكومة الألمانية، وبادر فورا بإخراج روسيا من الحرب وعقد معاهدة صلح مع ألمانيا.
تحت وقع تلك الأنباء الصادمة في بريطانيا بخروج روسيا من الحرب، تأكد لدى السياسيين البريطانيين ما كانوا يظنونه منذ عام 1915، وهو أن جماعة تركيا الفتاة واقعة تحت سيطرة الماسونيين اليهود الذين جعلوا الإمبراطورية العثمانية تتحالف مع ألمانيا، وبما أن كثيرا من البلاشفة من أصل يهودي وكذلك ألكسندر هيلفاند، الذي وفر لهم المال والتأييد الألمانيين، والذي جاء من إسطنبول، إذًا فالمؤامرة التي يدبرها اليهود الألمان والأتراك متكاملة.
وقد كتب جون بوتشان الروائي والذي عمل سكرتيرا خاصا للورد ميلنر في جنوب أفريقيا معبرا عن وجهة النظر تلك: "بعيدا وراء كل الحكومات والجيوش هنالك حركة سرية جارية، دبرها شعب خطر جدا.. إن هذا يفسر أشياء كثيرة.. أشياء حدثت في البلقان، وكيف صعدت دولة ما فجأة إلى القمة، وكيف قامت تحالفات وانهارت، ولماذا اختفى رجال معينون، ومن أين جاءت مصادر القوة للحرب، إن هدف المؤامرة كلها هو الإيقاع بين روسيا وألمانيا وجعلهما في حالة خصام. اليهودي وراء كل ذلك، واليهودي يكره روسيا أكثر من كرهه الجحيم.. هذا هو الثأر للمذابح، إن اليهودي في كل مكان، وله عين كعين الحية ذات الأجراس.. إنه الرجل الذي يحكم العالم الآن، وهو يغمد مُديته (سكينه) في جسم إمبراطورية القيصر".
ظهور فكرة المؤامرة الكبرى
كانت الأحداث التي وقعت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، واشتعال انتفاضات العرب في مصر 1919، والعراق 1920، وفلسطين 1920، بجانب الانقلاب الذي حدث في إيران 1921 بقيادة رضا بهلوي، قد أكملت الصورة في ذهن البريطانيين أن هناك مؤامرة كبرى يحيكها اليهود ضد بريطانيا، وهو ما كان عاملا مساهما في دفع بريطانيا إلى إصدار وعد بلفور 1917.
يقول دافيد فرومكين: "وفي حين أن نظرية المؤامرة هذه تبدو في ضوء التاريخ الساطع سخيفة إلى حد البلاهة، فقد كان يؤمن بها كليا أو جزئيا عدد كبير من المسؤولين البريطانيين العاقلين والمتزنين.. علاوة على ذلك، كانت هناك بينة واحدة حقيقية تسند هذه النظرية: إنها سيرة حياة ألكسندر هيلفاند. كان هيلفاند فعلا يهوديا تآمر لمساعدة الألمان ولتدمير الإمبراطورية الروسية، وكان وثيق العلاقة مع نظام حكم حزب تركيا الفتاة في القسطنطينية. ولعب دورا مهما في اختيار لينين وإرساله إلى روسيا للحض على ثورة بلشفية بغية مساعدة ألمانيا في ربح الحرب، وقد تابع فعلا نسج شباكه التآمرية بعد الحرب. لقد كان هيلفاند مطابقا للصورة التي كانت في ذهن وينغيت عن اليهودي: غنيا، مفسدا ومواليا للألمان".
وفي 12 ديسمبر/كانون الأول 1924 تُوفي بارفوس، وتم حرق جثته في مقبرة برلين، وكتب كونراد هينيش (Konrad Haenisch) في مذكراته: "هذا الرجل يمتلك أكثر عقل شغوف بالأممية الثانية". ولم يترك بارفوس أي وثائق بعد وفاته، واختفت جميع مدخراته.
المصدر : الجزيرة بتصرف