يشكِّل الخوف منظومة كبرى في إرثنا الثقافي، وكان تحوُّل أساليب الدعوة من الترغيب إلى الترهيب مصدراً أساسياً في إذكاء مشاعر الخوف في العقول، بالمقابل من ذلك يستخدم بعض الوعّاظ التخويف كإستراتيجية مؤثرة في السيطرة على العوام، لدرجة أنهم يهددون بالدعاء على من يخالفهم، وأنّ الله عزّ وجلّ مستجيب لدعائهم، فاحذروا أيها المخالفون، كذلك شكّل الخوف فصلاً أساسياً في التاريخ السياسي الأردني، واشتهرت بعض الأنظمة العربية السابقة بإشاعة الذعر بين شعوبها.
لم تكن فلسفة الخوف حالة عربية عامة او أردنية خاصة، فقد وصلت إلى مرحلة الخوف المثالي كما حصل في عصر جوزيف ستالين، فقد كان ستالين مخيفاً جداً، ليس فقط في مسألة إثارة الخوف في نفوس أعدائه، فقد قمع أصدقاءه، وأصاب أعوانه الموالين بالهلع، وكانت السجون مليئة بأنصاره الذين لم يتوقفوا عن تقدير وتعظيم ستالين الطيب، وإلقاء اللائمة على بطانته الفاسدة، كان المصدر الملهم لإشاعة الخوف عند ستالين خوفه من خروج الشعب في ثورة دموية.
كان ذلك نتاج استبداد الأيدولوجيا في صورتها الشيوعية، وأحد إفرازات إستبداد السياسة من خلال الحزب الحاكم بقبضة من حديد، لكن الحال كانت مختلفة تماماً في دول الحلفاء، فلم يكن الخوف هدفاً سياسياً كما عبّر عنها الرئيس الأمريكي بنيامين فرانكلن الذي قال: (أولئك الذين يتخلون عن حرية أساسية من أجل أمن مؤقت لا يستحقون الحرية ولا الأمن) .
في السنوات الأخيرة كان الصراع على أشده في دول الغرب حول طغيان إستراتيجيات الخوف بسبب الإرهاب، وذلك عندما حاول بعض السياسيين إستغلال مكافحة الإرهاب لرفع معدلات الخوف بين العوام، ففي المملكة المتحدة والولايات المتحدة، تنامى قلق كبير بشأن محاولات بعض الحكومات، إستغلال قضية الإرهاب إبتداءً من التنصت على المكالمات الهاتفية، وإنتهاءً بانتهاك حقوق الإنسان بمختلف أنواعها.
يقول مستشار الأمن القومي السابق بريجينسكي، إنّ إستخدام تعبير الحرب على الإرهاب كان بهدف خلق ثقافة الخوف عن عمد لأنها تحجب العقل، وتزيد من حدّة المشاعر، وتجعل من الأسهل على السياسيين الغوغائيين تعبئة الجمهور بالسياسات التي يرغبون في تمريرها..
وقف الإعلام الحرّ وجمعيات حقوق الإنسان في البرلمان ضد إستبداد سياسة الخوف بين الناس، وذلك لأنّ المدنية تحتاج إلى الثقة لا إلى الخوف، وأنّ التنمية والإنجازات في مقدورها أن تتجاوز مصادر المخاوف أياً كانت، وأنّ التقدم إلى الأمام يعزل أنصار ومنتجي ثقافة الخوف، ويجعلهم في حالة إضطرار إما باللحاق بالرَّكب قبل فوات الأوان أو التخلُّف عن الرَّكب..
في أجواء الشك و الخوف يخون الإنسان عائلته، ويلعب الأصدقاء لعبة الكراسي والإقصاء، وتصبح الحياة مسمومة بالكامل، وفي أجواء الرعب يسود الصمت ويختفي الإبداع، وينهار الإقتصاد، بينما في أجواء الحرية والقانون وفصل السلطات تتحول الحياة إلى بستان جميل يسود فيه الجمال والثقة والمشاركة، وينعم فيه الجميع بلا إستثناء.
إتفق مختلف الفلاسفة عبر التاريخ أنّ الواجب الأول للفلسفة هو تخليص الإنسان من مشاعر الخوف، وذلك لأنّ التحرير سيكون المنطلق الأساسي لتحرير العقل من الخرافة والعبودية والجهل والإتكال، وسيكون ذلك المدخل الأهم للحياة والحقوق المدنية.
من مظاهر الخوف أيضاً أن يخاف البعض من الحرية والإنفتاح، وهي حالة مولدة لثقافة الخوف الأكبر، لذلك تجدهم يبدون حالة من الذعر كلما تحرك المجتمع قليلاً في إتجاه الإنفتاح، وبرغم من أنهم يدركون أن الحرية والمسؤولية كلٌّ لا يتجزأ، وأنّ العدالة والثقة والأمن منتجات تبرز عندما تزول سيادة مشاعر الخوف.
خلاصة الأمر أنّ الخوف لا يأتي من حالة إطمئنان، ولكن تحركه مشاعر خوف أكبر، ولذلك لا يمكن أن تكون سياسية التخويف مرادفاً مباشراً لإستمرار النجاحات، بل هي أكبر مهدد للإقتصاد والأمن والإنجاز، ولذلك يجب مكافحة ثقافة الخوف سواء في تقافة الماضي أو غيرها، وذلك من أجل مستقبل أكثر أمناً وثقةً في مجتمعاتنا.
الدكتور هيثم عبدالكريم احمد الربابعة
أستاذ اللسانيات الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي