زاد الاردن الاخباري -
كتب عبدالمجيد عصر المجالي - لم أكتب منذ شهور، كنت أعيش " حبسة الكاتب"، خلال هذه الفترة مرت أمام عيني عشرات المواقف التي تستحق الكتابة، واختبرت عشرات الخيبات التي تستحق أن ينفجر القلم في وجه الورقة متأثرًا بها، لكنني لم أفعل، غير أن رحيل العم والأب حسام السرطاوي ( أبو عمر) قبل يومين أعاد أمام ناظري يوم ٢٠٢١/٩/٢٧ الذي رحلت فيه أمي ( لطيفة الزيود) بكل تفاصيله المليئة يُتمًا وانكسارًا !
بعد هذا اليوم المشؤوم كُنت كلما هزني الحنين إليها، وكلما حاصرتني الدنيا بثقلها، وكلما تذكرت كم صرت يتيمًا لا أجد مهربًا سوى دار ( أبو عمر) ، هناك كانت السكينة تتنزل علي، وهناك كنت أشعر أن هذا البيت لي وحدي وأن حسام السرطاوي وزوجته فاطمة السرطاوي -أو ( الكبيرة) كما يناديها ابنها عامر - ضيوفي لا أكثر، وهناك كان يتراءى لي وجه أمي فأشعر أنها تبتسم مطمئنة علي !
صحيحٌ أنني كنتُ منحازًا للكبيرة فاطمة السرطاوي أكثر من انحيازي للكبير حسام السرطاوي، ذلك أني كتبت أكثر من مقالة عن علاقتي بها، وربما أن هذا الانحياز ينبع من تعلقي الشديد بأمي وكل الأمهات من جيلها ، لكنني رغم ذلك كنتُ منبهرا بكل تفاصيل هذا الرجل: وقاره الكثير، جلسته الآسرة، منظر (السيجارة) في يده، صوته الخافت شديد الوضوح، صمته الذي يحكي كل شيء، وزهده في الدنيا، تخيلوا أنني حين طلبت صورة له كي أُرفقها مع المقالة أرسل لي أهله صورًا لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، هذه كل الصور التي أُخذت له خلال ٧٥ سنة عاشها ! لم أرَ في حياتي رجلًا أكثر طيبة منه، أكثر أدبًا منه، كان إذا أراد أن يناقشني بمقالاتي يبدأ حديثه قائلًا: " يا أستاذ" ، فأذوب خجلًا في ملابسي ! كنت أقول له : " يا عمو أنا مثل عامر، انت بتحكي لعامر يا بيك ؟"، ثم أُمازحه قائلًا: " بعدين انا ما بدرس اجتماعيات حتى تحكيلي أستاذ" ، فيضحك وتضحك لضحكته ليالي الخريف البائسة !
لا أظن أنه طلب شيئًا لنفسه، لا أظن أنه سعى من أجل الدنيا يومًا، كان طلبه الوحيد وسعيه الوحيد أن يلتحق ابنه عامر بجامعة مؤتة/ الجناح العسكري ليكون عسكريًا مثله، وقد كان له ما أراد، صار عامر ناطقًا إعلاميًا باسم الأمن العام كله، نعى في البيانات التي كتبها مئات الشهداء من زملائه، نعى مئات الأردنيين الذين تخطفتهم الطرق وطالتهم يد النصيب العاثر، لكن البيان الذي لم يكن يتمنى أن يكتبه، النعي الذي تمنى لو مات قبله وكان نسيًا منسيا ذلك الذي قال فيه "أُشهد الله أنك المومن المسامح الكريم ، ظُلمت وما ظَلمت ، تعبت وأرهقتك الدنيا فصبرت، فإلى رحمة الله يا أغلى من على الأرض".
دُفن أبو عمر في مقبرة الهاشمية، على مقربة من قبر لطيفة الزيود، صار هناك أمي، صار هناك أبي !