اشترى فلاح فقير زوج أحذية, بني اللون; وظل يستعمله سنوات عدة. أصلحه مرات عدة; ولقد تغير لونه, وجوانب أخرى منه; ومع ذلك ظل يقول "حذائي البني اللون"!
لو سئل الفيلسوف الألماني الجدلي الكبير هيجل عن رأيه في الأمر, لأجاب قائلا, على ما أتوقع: صاحب هذا الحذاء استمسك بمبدأ "الهوية", أي بمبدأ "الشيء يظل هو نفسه, لا يتغير"; وكان ينبغي له أن ينظر إلى حذائه في تغيره.. في حركته, فليس من شيء يبقى على ما هو عليه.
وإياكم أن تظنوا أن المشتغلين بالسياسة من العرب يختلفون كثيرا عن ذاك الفلاح لجهة طريقته في التفكير والنظر إلى الأمور.. وإلى كثير من المفاهيم والشعارات السياسية, فالشجر عندهم يموت; ولكن ظلاله تبقى حية إلى الأبد!
إنني أستطيع أن أدرج في قائمة عشرات; بل مئات, المفاهيم والشعارات السياسية, التي ما زالت تؤلف معظم, إن لم يكن كل, متاعنا الفكري السياسي, مع أن صلتها بالواقع الذي أنتجها وخلقها أصبحت أثرا بعد عين, وكأنها ظلال أجسام تبقى ولو فنيت الأجسام نفسها.
إن المفهوم كالصورة, فأين هو المنطق في تفكيرك, وفي طريقتك في التفكير, إذا ما التقطت صورة للطفل الرضيع زيد, وقلت إذ أصبح شابا هذا هو زيد, مشيرا إلى صورته?!
أما إذا أردتم مثالا أكثر وضوحا فما عليكم إلا أن تنظروا, وتمعنوا النظر, في مفهوم القضية الفلسطينية, الذي ما زلنا نستمسك به, وكأن المحتوى الواقعي لهذا المفهوم لم يعرف تغييرا مذ ظهر إلى حيز الوجود; ولعل خير دليل على ذلك هو أننا سنختلف اختلاف شيوخ الإفتاء لو أجبنا عن السؤالين الآتيين: "ما هي القضية الفلسطينية?", و"كيف يمكن أن تحل?".
إذا أردنا لتفكيرنا السياسي أن يكون وثيق الصلة بالواقع وحقائقه, وأن نعيِّن, بالتالي, مهمة الساعة, فلسطينيا, على خير وجه, فلا بد لنا, على ما أحسب, أن نفهم "التحرير", الذي تتضمنه الإجابات المختلفة جميعا, أو غالبيتها, على أنه تحرير لا بد منه للسلطة الفلسطينية ولمنظمة التحرير الفلسطينية, فإن قيادة الشعب الفلسطيني, وممثله الشرعي والوحيد, هي التي تحتاج إلى التحرير الآن أكثر من الفلسطينيين أنفسهم, ومن أراضيهم التي تحتلها إسرائيل منذ .1967
أقول ذلك, وأقول به; لأن "المحرِّر", أي القيادة الفلسطينية, لن يكون كذلك إذا لم يكن هو محرَّرا, في إرادته السياسية, وفي قوله وفعله السياسيين.
لقد انتقلت القيادة الفلسطينية إلى هناك.. إلى المحتل, إسرائيليا, من الشعب الفلسطيني وأرضه, من أجل أن تأتي بمعجزة التحرير (له ولأرضه) من خلال التفاوض السياسي مع المحتل الإسرائيلي, فماذا كانت النتيجة النهائية والعملية والواقعية?
عجزت, أولا, عن الإتيان بهذه المعجزة; ثم أتى عجزها, إذ تأكد ونما, بما جعلها هي جزءا من الواقع الفلسطيني الذي يعاني من عواقب الاحتلال الإسرائيلي أكثر, وأكثر بكثير, من سواه, حتى أن تحريرها من هذا الاحتلال, ومن ضغوطه وتأثيراته المختلفة, الظاهرة والمستترة, أصبح, بحسب وجهة نظر الواقع نفسه, مهمة الساعة, فلسطينيا, والشرط الأولي لجعل تحرير المحتل, إسرائيليا, من الشعب الفلسطيني وأرضه, هدفا واقعيا في متناول أيدي الفلسطينيين.
بدعوى (لا يصدقها ولا يقتنع بها عاقل) العودة من المنافي إلى الوطن, أو "عودة السمك إلى مائه", والانضمام إلى الشعب في الصراع المباشر واليومي ضد الاحتلال الإسرائيلي, جيء, أولا, بغالبية المنتمين إلى حركة "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى الوطن المحتل على هيئة مستوطنة فلسطينية, ضُرِب عليها حصار إسرائيلي محكم, ومتعدد الوجه; ولم يكن كله من الخارج, فبعضه كان أو أصبح من الداخل, وإن تزيَّن بكثير من الأوهام الفلسطينية, التي أصبح لبعض من المحاصَرين في تلك المستوطنة مصلحة في تصويرها (أي تلك الزينة من الأوهام) على أنها حقائق لا ريب فيها; ثم ارتفع في أنفسهم منسوب الثقة بجدوى وأهمية وضرورة إعادة البقية الباقية (بحسب حساب الحسيب) من السمك إلى مائه, فجيء بما بقي من هيئات ومؤسسات فلسطينية قيادية إلى "دار أبي سفيان", وكأنها "الدار الآخرة", لجهة كونها خيرا وأبقى!
عملا بهذه الرياضيات السياسية, أصبح الشعب الفلسطيني "الخارجي" بلا قيادة; أما الشعب الفلسطيني "الداخلي" فأصبحت له قيادة, تعاني من الاحتلال الإسرائيلي وضغوطه أكثر منه, وكأن قاطرة الاحتلال الإسرائيلي تحتاج إلى مدها بمزيد من الوقود الفلسطيني!
وفي مناخ المستوطنة الفلسطينية تلك, ازدهر "التبقرط", أي تحول القيادة الفلسطينية, وعبر السلطة وهيئاتها ومؤسساتها, إلى جماعة من البيروقراطيين, الذين من عيونهم, أي من عيون مصالحهم الشخصية والفئوية الضيقة, والتي تضيق بالمصالح الفلسطينية العامة, ينظرون إلى القضية القومية للشعب الفلسطيني, وإلى حقوقه ومصالحه القومية, وإلى الحل النهائي, شكلا ومحتوى, وإلى كيفية الوصول إليه وتحقيقه.
بما يوافق تلك المصالح البيروقراطية, في المقام الأول, تُصنع الآن وتتغير "السياسة", ويجاب عن سؤال "ماذا نريد?", وعن السؤال المشتق منه, وهو "كيف نصل إلى هذا الذي نريد?".
وجاء "الخيار" بحجم يعدل حجم تلك المصالح, أي يقل كثيرا, وكثيرا جدا, عن حجم القضية والحقوق; ولقد صيغ على النحو الآتي: لا عودة إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل قبل أن توقف نشاطها الاستيطاني وقفا تاما شاملا.