إن الاستثمار إن ركن فقط إلى الأرباح المجزية من عوائد السندات وسعر الفائدة المرتفع وقام بتجميد أمواله لدى المؤسسات المختلفة فسيطفئ ذلك الرغبة المتقدة التي كانت لديه لخوض غمار اي من الفرص الاستثمارية المختلفة، وسيحتاج للكثير من الوقت لإعادة دراسة اتجاه الأسواق لفهمها إن قرر العودة لتنشيط استثماره السابق او التوجه نحو اي استثمار جديد، وذلك بالطبع بسبب الانقطاع الطويل عن الاطلاع على اوضاع الأسواق لفهم اتجاهات العرض والطلب وعدم متابعة الحديث من دراسات الجدوى الاقتصادية للمشاريع الاستثمارية الواعدة، فحتى لو تم تخفيض سعر الفائدة لهدف دفعه للعودة لسابق عهده فإن الانكماش الذي تم السعي إليه بهذه الارتفاعات المتتالية لسعر الفائدة سيكون قد أدى إلى اقتراب الاسواق من مرحلة الركود التي تسبق مرحلة الكساد.
وها قد وصل معدل التضخم بالولايات المتحدة إلى 3.2% بعد احد عشر ارتفاعا لسعر الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي لتصل إلى ما بين النطاق 5.25% و 5.50% وقد كان ارسل رسالة إبان قراره برفعها قبل المرة الأخيرة ان وتيرة الارتفاع لسعرها سوف تتراجع وربما تتوقف إلا انني كنت واثقا من ان طبيعة اي موسم صيفي وكأي دولة من دول العالم يزداد خلاله الاقبال على الخدمات والسلع ولِنقل الإنفاق بشكل عام ولقد وضحت ذلك بمقال سابق وذكرت أن التضخم العنيد بالولايات المتحدة والذي استنفذ حتى الآن كل هذه المحاولات برفع نسبة سعر الفائدة لكبح جماحه ما زال بعيدا عن المعدل المنشود، وحتى الانخفاض الحالي فهو معرض للارتفاع ثانية بفصل الصيف القادم نتيجة اختلاف طبيعة الانفاق والاقبال على الخدمات، فمكافحة هذا التضخم ما زالت تتم بمحاولة الحد من الاعراض لا معالجة الأسباب، والتي اراها لا تبتعد قيد انملة عن طبيعة النمط الاستهلاكي النهم الذي اعتاده الفرد بمجتمعهم، إضافة لما دأبت عليه وسائل اعلامهم لبث هذا الزخم المرتفع ذو الايقاع المستمر لكل انواع والوان الإعلان التجاري الذي أُعد بكل اتقان من خبراء الإعلام وأساتذة علم النفس والسلوك الاجتماعي والذي يحاكي كل ما يحيط بالجوانب المعيشية للمواطن لديهم، فهذا الكم من الإعلان يستحوذ على رغبات المستهلك لحثه على الاستمرار بالانفاق وعدم التوجه للادخار، وكل محاولات ترشيد الاستهلاك والحد من الانفاق على السلع والخدمات وتشجيع الادخار برفع العائد المجزي من نسبة الفائدة المرتفعة تذهب ادراج الرياح نتيجة هذا النهج الاستهلاكي الموجه الشره والذي بالمقابل يوازي نفس الشراهة لمن يدفع على استمراره من كبار الشركات العملاقة المسيطرة على الأسواق، ومن هنا لا بد أن نفهم التناقض بين ما يسعى اليه الاحتياطي الفيدرالي للحد من الإنفاق وبين كامل توجهات القطاع التجاري لديهم.
أما اليوم فيعاود الاحتياطي الفيدرالي التصريح إلى أن المعدل 2.0% للتضخم ما زال هدفنا المنشود وبنهج سياسته المعروفة لدى الجميع فانه لم ولن يتوقف إلا عند وقوع جلل ما او الوصول لهذا الرقم او كلاهما معا، وقد ذكرت بمقال آخر أثر هذه الارتفاعات المتتالية لمعدل سعر الفائدة على العديد من اقتصاديات الدول وكتبت انه لا يمكن الاكتفاء بوسيلة التغيير المتتالي لاسعار الفائدة لما لها من تبعات قد تكون بمنتهى السلبية على إقتصاد العديد من دول العالم، فبعض الدول اقتصادها المحلي لا يعاني من تلك النسبة من التضخم وربما على العكس تماما تكون ظروفها الاقتصادية تحتاج إلى خفض بسعر الفائدة لا ارتفاعها وذلك لتشجيع الاستثمار بجميع نواحيه ولكنها ستجد نفسها مضطرة وعلى مضض للحذو حذو البنوك بالخارج برفع الفائدة وبنفس النقاط وذلك خوفا من الاتجاه إلى (الدولرة) او هجرة الودائع التي لدى بنوكها المحلية، وتأتي المزيد من المخاوف والمحاذير جراء رفع نسبة الفائدة بأن يتجه أصحاب رؤوس الاموال إلى تجميد اموالهم بالبنوك فالعائد مغري لذلك، وحتى على مستوى من ليس بذلك الثراء فقد يحجم عن الاستثمار بشراء شقة او غير ذلك ويجمد أمواله بالبنوك لنفس السبب السابق، وبالإضافة إلى أن زخم الائتمان سيتراجع نظرا لارتفاع التكاليف التي ستترتب على جدواه.
صحيح أن الظروف الدولية الحالية سواء من الحرب في أوكرانيا وتأثيرها على سلاسل توريد الإمداد وما سبقها من جائحة الكوفيد إضافة الى التغيرات المناخية واخيرا تداعيات انسحاب روسيا من اتفاقية تصدير الحبوب الاوكرانية كل ذلك كان له تداعيات متفاوتة التأثير السلبي على إقتصاد اغلب الدول، إلا أن النمط الاستهلاكي وطبيعة الحاجات للشعوب ونسبة اقبالها على الخدمات لا يمكن ابدا أن تكون متماثلة، وبالتالي القرارات التي تناسب إقتصاد الولايات المتحدة قد لا تناسب ابدا غيرها من الدول، عدا ان الكثير من الدول طبيعة اقتصادها يعطيها الكثير من المرونة للتحكم بنسب العرض والطلب، فإما من خلال نجاح تأثيرها على مواطنيها بترشيد الانفاق او تقييد الاستهلاك او من خلال تخفيضات أو رفع للضرائب والرسوم الجمركية او اي تسهيلات خاصة لتشجيع التوجه نحو مجال اقتصادي معين وغير ذلك من الطرق التي يمكن السير بها بعيدا عن التغيير المتتالي لسعر الفائدة الذي يربك الاقتصاد.
وهذا ما يدعوني للتساؤل هل جهابذة الاقتصاد في الولايات المتحدة الذي يعتبر الاقتصاد الاقوى عالميا قد عجزوا عن التحكم بعوامل وتوجهات الاقتصاد عامة ومستويات العرض والطلب خاصة بأي من الوسائل الأُخرى غير تغيير سعر الفائدة ام ان الشراهة والنهم لثقافة الاستهلاك المرتبطة بزخم الاعلان لديهم لا تمكنهم من التحكم بتلك العوامل الا من خلال ذلك؟ ام لاهذا ولا ذاك والقرار يرتبط بمصالح خاصة تتعلق (بالسياسة رفيقة الاقتصاد؟) فها هو مؤشر سوق الاسهم اليابانية يسجل التراجع تلو التراجع وكذلك على نفس الحذو النفط والجنيه الاسترليني وحتى الذهب الملاذ الآمن لم يعد التوجه اليه بنفس القوة السابقة بعد هذا النهج المستمر للاحتياطي الفيدرالي برفع الفائدة لهذا الحد، وهل هذا الحذو يتعلق بالسياسة فقط وهي الان من تقود الاقتصاد؟
مهما كانت الإجابة فطالما نحن والعديد من الدول لا نعاني من ذلك المعدل من التضخم فلماذا علينا أن ندفع ثمن هذا الإرباك للاقتصاد؟ وان كان لا مناص لدينا لتجنب ذلك نتيجة للكثير من الاعتبارات التي قد يطول الخوض فيها، فلا بد لنا بعد رفع نسبة الفائدة من العمل محليا على الحفاظ على زيادة الاستثمار بالتطبيق الامثل لقانون البيئة الاستثمارية الجديد والسعي وراء تنشيط الحركة الشرائية من خلال رفع الحد الأدنى للأجور وبنسبة مدروسة، وتخفيض للرسوم الجمركية على بعض المواد بإستثناء مثيلها من أصناف الصناعات المحلية، ولا بد من تخفيض لضريبة المبيعات، كل ذلك ان تم العمل به وغيره من إجراءات نضع ثقتنا بأصحاب القرار بالسعي الحثيث لتحقيقها سيكون بمثابة المحرك لدوران عجلة الاقتصاد بكل سلاسة وسيجنبنا الكثير من تبعات علاج اقتصادهم وما ترمي إليه سياستهم.
مهنا نافع