إن مفهوم الهندسة العكسية العسكرية والتي تعرف ب Military Reverse Engineering هو إكتشاف المبادىء التقنية لمنظومة أو لآلة (طائرة, دبابة, صاروخ, زورق) أو لجهاز من خلال تفكيكه وتحليل بنيته والتعرف على وظيفته وطريقة عمله Software و Hardware. من هنا نشط التركيزعلى الهندسة العكسية العسكرية في الحرب الروسية - الأوكرانية وتم الإستفادة منها من كلا الطرفين المتخاصمين وحلفاءهم بصورة لم تظهر منذ إندلاع الحرب العالمية الثانية. كما نعلم أن المنظومات الدفاعية والهجومية المتطورة من الأسلحة والذخائر تصنّع بأسرار لإدامة تفوقها على المنتج الذي يصنعه الطرف المنافس لسببين: السبب الأول: لكسب المعركة في حالة تم تزويد هذه المنظومة لجيش البلد المصنع أو الحليف.
السبب الثاني: لضمان التفوق العسكري لهذه المنظومة على غيرها وبالتالي لتحقيق أعلى نسب مبيعات للجيوش الصديقة والحليفة .
خلال فترة السلم يتم التجسس على المصانع التي تصنع هذه المنظومات ومختبرات الأبحاث والدراسات التقنية عن طريق العملاء المختصين المهنيين والتقنيين أصحاب الخبرات, وذلك للحصول على المخططات والبرامج أو أجزاء هامة من هذه المنظومة, ليتم نقلها إلى مصانع المنافسين للتعرف على جميع خصائصها ووظائفها وطريقة عملها لصنع ما يشبهها أو يتفوق عليها, أو صنع أو تعديل في منظوماتها أو برامجها لتتفادى تأثيرها عن طريق التشويش عليها وإبطال عملها لكسب التفوق البري أو البحري أو الجوي في المعركة, ولا ننسى في هذا السياق حادثة طائرة التجسس الأمريكية يو-2 والتي سقطت على أراضي الإتحاد السوفيتي عام 1960 وتسببت في زيادة توتر العلاقات مع الولايات المتحدة, بعد أن عرضت في المعرض الخاص للقوات المسلحة السوفيتية حيث زارها آنذاك الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف, وكذلك إسقاط الولايات المتحدة مؤخراً المنطاد الصيني التجسسي فوق المياه الإقليمية في الولايات المتحدة والإستيلاء على أجزائه ودراسته وتفكيكه.
وهناك طريقة أخرى للحصول على هذه المنظومات والبرامج عن طريق طرف ثالث بطريقة غير شرعية وبعدها يتم تزويد مصانع الخصم ومراكز أبحاثه ومختبراته ودراساته التقنية بعينات منها.
أما أثناء الحرب فالفرصة متاحة للطرفين للحصول على هذه المنظومات والبرامج بكل سهولة ويسر عن طريق الإنسحابات الغير منظمة للطرف الآخر في ساحة المعركة, أو من خلال الفشل في الهجمات العسكرية المعاكسة , وهذا ما حصل مؤخراً مع الجيش الأوكراني الذي قام بهجوم معاكس غير منظم ومدروس بالشكل الصحيح على الجيش الروسي, خلّف وراءه منظومات دفاعية وهجومية متطورة مكنت الجيش الروسي من الإستيلاء عليها , وإرسالها لمصانعها ومصانع حلفائها كالصينيين والإيرانيين, وعلى الجانب الآخر تمكن الأوكرانيون من الحصول على طائرات مسيرة روسية , وعند تفكيكها والتعرف على وحدة التحكم الرئيسية فيها وجدت الرقاقات من صناعات غربية وهذا ما أثار حفيظة حلف الناتو حول كيفية وصول هذه الرقاقات لمصانع الخصم رغم الحظر الذي فرض عليهم.
إن أكثر ما يرغب أي طرف في الحصول عليه من أي منظومة متطورة هو وحدات التحكم أو العقل المدبر الذي يصنع الفارق, من حيث التعرف من خلال برامجه ووظائفه على المدى والسرعة ودقة إصابة الهدف والقدرة على المتابعة والرصد لعدد من الأهداف مجتمعة معاً, وسرعة الإستجابة, وكذلك كيفية التشويش عليه, كل ذلك تقدمه الرقاقات ذات الصغر المتناهي والتصميم الذي يعتبر من أهم الأسرار.
لقد تم الإستيلاء على منظومات دفاعية وهجومية من طائرات مسيرة وصواريخ خلال هذه الحرب من قبل الأطراف المتنازعة وحلفائهم وتم صناعة وتعديل منتجاتهم ومعرفة نقاط ضعفهم, وهذا ما صنع الفارق على الأرض , وقد لاحظنا مؤخراً كيف أن إستخدام الصواريخ الروسية لقصف أوديسا لم يجابه بأي منظومات دفاعية أوكرانية.
إن الخطر الكبير في وقوع هذه المنظومات في أيدي الطرف الآخر تكمن في أسباب رئيسية أهمها قلة التدريب, والتنوع الكبير في المنظومات المختلفة التي تُستخدَم, وهذا ما أثر على فاعلية هذه المنظومات وجعلها سهلة الوقوع بأيدي الطرف الآخر ولا ننسى سبب آخر والذي أعتبره أهم الأسباب وهو الحرب بالوكالة والذي من خلاله لا يتم السيطرة المنظمة على هذه المنظومات إبتداءً من شحنها ونقلها وتخزينها ثم إستخدامها في الزمان والمكان المناسبين, لذلك نرى بعض المنظومات المتطورة لا يتم إرسالها للأوكرانيين من قبل الحلفاء خشية الوقوع بأيدي الطرف الروسي, أو يتم إرسال الموديلات القديمة منها.
لذلك فإن قرار تزويد الأوكرانيين من قبل الحلفاء بالأسلحة والمنظومات المتطورة هو قرار صعب يدخل فيه حسابات معقدة وتوازنات من حسم معارك أو إحتلال مناطق أو القيام بهجمات معاكسة , فوقوع هذه الأسلحة أو المنظومات بيد الطرف الآخر ستكلف من زودها مئات ومليارات من الدولارات في حالة تم معرفة تفاصيلها وصناعة ما يشبهها أو يتفوق عليها .
ولا ننسى أيضاً أن إسرائيل التي تفكر بإجتياح غزة برياً ستدفع الثمن باهضاً لسنوات قادمة , وخصوصاً أنها ستستخم تقنياتها وأسلحتها ومنظوماتها المتطورة في ذلك الإجتياح , متناسية أنه من السهل الإستيلاء عليها من قبل المقاومة الفلسطينية ,وهي بمثابة كنز ونقاط تحول في الميدان لصالح المقاومة في حالة تمكنها من إختراق تلك المنظومات من صواريخ وطائرات مسيرة وأجهزة إتصالات وكاميرات ودبابات وغيرها, والتعرف عليها بكامل خصائصها ومميزاتها من أجزاء دقيقة مثل لوحات التحكم الرئيسية والمعالجات المتنوعة, وهذا من شأنه زيادة كفاءة القدرات العسكرية للمقاومة الفلسطينية مع مرور الزمن.
الخبير والمحلل الإستراتيجي في السياسة والإقتصاد والتكنولوجيا
المهندس منهد عباس حدادين
mhaddadin@jobkins.com