زاد الاردن الاخباري -
مايكل يونغ* - (كارنيغي الشرق الأوسط) 15/11/2023
يشرح سومديب سِن Somdeep Sen، في مقابلة أجريت معه، طرق استخدام المستوطنات في الضفة الغربية، وحتى الجامعة العبرية في القدس، لمحو الوجود الفلسطيني.
سومديب سِن هو أستاذ مشارك في جامعة روسكيلد في الدنمارك، له كتب عديدة، ألفها أو شارك في تأليفها، من أبرزها كتاب "تفكيك استعمار فلسطين: حماس بين مناهضة الاستعمار وما بعد الاستعمار" Decolonizing Palestine: Hamas Between the Anticolonial and the Postcolonial، الصادر عن منشورات جامعة كورنيل في العام 2020، وكتاب "السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية: مسرحة إدارة سياسية بائسة" The Palestinian Authority in the West Bank: The Theatrics of Woeful Statecraft، الصادر عن منشورات راوتلِدج في العام 2018. نشرت كتاباته في صحف ومجلات عدة، مثل "الواشنطن بوست"، "فورين بوليسي"، "لندن ريفيو أف بوكس" وغيرها. أجرى أبحاثًا ميدانية مكثفة في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك في قطاع غزة، والضفة الغربية، وإسرائيل، وتركيا ومصر. أجرت "ديوان" مقابلة معه في مطلع شهر تشرين الثاني (نوفمبر) لمناقشة الكيفية التي تعبر بها المشاهد الجغرافية والمكانية عن علاقات القوة بين إسرائيل والفلسطينيين، ولا سيما في مدن وبلدات الضفة الغربية والقدس المحتلة.
* * *
مايكل يونغ: من المسائل التي تثير اهتمامك مساهمة الجغرافيا والمشاهد المكانية في تشكيل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. هلا شرحت أسباب ذلك، وبأي طرق حدث؟
سومديب سِن: أعتقد أن المشاهد المكانية هي بمثابة معرض يُظهر للعيان التفاعلات الاجتماعية السياسية الخاصة بمكان ما، سواء كان ذلك من خلال تصميم أو مخطط البيئة العمرانية، أو عبر طريقة تأطير المناظر الطبيعية أو تنظيمها. وينطبق هذا أيضًا في حالة فلسطين وإسرائيل. فقد انطوت عملية تأسيس إسرائيل على دور أساسي أداه خبراء الجغرافيا والتخطيط والخرائط الذين سعوا إلى رسم خريطة "الوطن" التي حولت مطلب الأرض الرمزي إلى ملكية مادية. كذلك، أدى خبراء الجغرافيا الفلسطينيون دورا أساسيا في كشف النقاب عن الممارسات التي أمعنت في محو الوجود الفلسطيني، بدءا من النكبة والطرد القسري للفلسطينيين من أراضيهم في العام 1948 ووصولا إلى الاقتلاع المستمر للمجتمعات المحلية الفلسطينية من القدس والضفة الغربية نتيجة مشروع الاستيطان الاستعماري العنيف.
تُلهمني في أعمالي بعض الأبحاث الرائدة التي أُجريَت حول التصميم والتخطيط المكانيين، والإيديولوجيا السياسية الأمنية التي ترتكز عليها البنية التحتية للاحتلال الإسرائيلي. لكن ما أركز عليه في أعمالي ليس الإيديولوجيا السياسية التي تستند إليها هذه البنية التحتية. إنني مهتم بمساهمة هذه الإيديولوجيا في تحديد طرق التفاعل مع المشهد المكاني. ومن هذا المنطلق، أجادل بأن المشهد المكاني ليس قطعة أثرية جامدة أو نتيجة صافية لإيديولوجيا سياسية محددة. بل ينبغي النظر إليه باعتباره موقعا نشطا يساعد السكان الذين يتفاعلون معه في حياتهم اليومية على إيجاد المعنى السياسي. بالنسبة المستوطنين، يسهم الواقع المادي الملموس للاحتلال في تعزيز شعورهم بامتلاك السلطة السيادية على المشهد المكاني. أما بالنسبة الفلسطينيين، فهذه الطبيعة المادية الخاصة بالاحتلال تهدف إلى تغريبهم عن أرضهم وإيقاف مطالبتهم بالمشهد المكاني وتقويضها.
في معرض أبحاثي، أجريتُ عملا ميدانيا إثنوغرافيا موسعا في المستوطنات الإسرائيلية، وكذلك داخل قرى فلسطينية وفي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وفي بلدات كانت تقع في الكثير من الأحيان بالقرب من هذه المستوطنات. وأجريتُ أيضا عملا ميدانيا في حيفا، حيث تأملتُ البيوت الفلسطينية التي هجرها أهلها خلال النكبة، والتي كانت صامدة في مكانها بانتظار أن يبتلعها الزحف العمراني للمدينة الساحلية. وأرتكزُ في مشروع كتابي الحالي إلى هذا العمل الميداني، وأدرج فيه أيضا الأحداث التي جمعتني (على مضض ومن دون سابق تخطيط) بالبنية التحتية الأمنية للاحتلال الإسرائيلي. وأحاول التفكير في السياسات الحَيّزية والمكانية في فلسطين وإسرائيل، انطلاقًا من هذه الأعمال الميدانية، ومرورًا بتعرضي للتوقيف والتفتيش والاستجواب بشكل روتيني عند نقاط التفتيش والحواجز الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وصولا إلى احتجازي في "غرفة انتظار" صغيرة في مطار بن غوريون.
يونغ: ركز أحد جوانب عملك الميداني داخل المجتمعات المحلية الفلسطينية والمستوطنات الإسرائيلية على دراسة تصميم المستوطنات الإسرائيلية تحديدا. ماذا اكتشفتَ في هذا الصدد، وما الخلاصات التي توصلتَ إليها؟
سِن: ذكرتُ سابقًا أنني مهتم بكيفية تعامل الناس مع المشهد المكاني واختباره. ومن هذا المنطلق، أجريتُ عملا ميدانيا إثنوغرافيا في المستوطنات الإسرائيلية للتعرف إلى السياسة الكامنة في صلب تصميمها وتخطيطها، ولفهم كيف تسهم في تشكيل الهوية الذاتية للمستوطنين. فتجربة الذهاب من القدس إلى مستوطنة إسرائيلية مثل "إفرات" سريالية في حد ذاتها. أنت تعلم أن المستوطنات تعد غير قانونية بموجب القانون الدولي، وتعلم أيضا أن المدن والقرى الفلسطينية موجودة في الجوار. ولكن، عندما تنطلق في رحلتك من القدس، فإنك لا ترى ولا تشعر بأي شيء من هذا القبيل. فأنت تقود سيارتك على طريق لا يسمح للفلسطينيين بالقيادة فيه، وعلى طول الطريق السريع، أقيمت حواجز وجدران لحجب القرى والبلدات الفلسطينية المجاورة على مرأى الناظرين.
ولا تختلف التجربة المكانية داخل المستوطنة عن ذلك. غالبا ما يتم بناء المستوطنات على أرض مرتفعة. وتكون على معرفة بأن ثمة قرية فلسطينية واقعة في أسفل الوادي، ولكن لن يسعك أبدا رؤيتها. والسبب في ذلك هو أن طريقة تصميم المستوطنات وتخطيطها لا تتيح لك رؤية المستوطنات الأخرى إلا من أعلى التلة. وحين زرتُ مستوطنة إفرات، بدا على خريطتي الرقمية وكأنني من المفترض أن أتمكن من رؤية قرية وادي النيص الفلسطينية المجاورة من مواقع محددة في المستوطنة. لكن الحواجز والجدران والمباني المشيدة كانت تحجب الرؤية، أو أن الطريق كان يظهر ببساطة اتجاها مختلفا. في الواقع، كان عليّ أن أبذل جهدا حقيقيا لأتمكن من رؤية وادي النيص، ولم يكن ذلك ممكنا إلا حين سرتُ في الطريق وصولًا إلى ضواحي المستوطنة. ويمكن اعتبار هذه التصاميم والسياسات سمات مشتركة في معظم المستوطنات. وقد جادلتُ في عملي بأن هذا الواقع يعزز شعور المستوطنين بامتلاك السلطة السيادية على المشهد المكاني، من دون أي حضور فلسطيني يتحدى مجالهم البصري. فعند الوقوف على قمة التلة، يستطيع المستوطنون النظر إلى الأسفل، نحو الفلسطينيين الذين يعيشون في محيطهم، وبالتالي صرف النظر عنهم.
يونغ: هلا أوضحت معنى أن العرب قد أُزيلوا من المشهد البصري للمستوطنات الإسرائيلية، وماذا أخبرك المستوطنون عن هذه الظاهرة؟
سِن: تأكد انطباعي بأن الفلسطينيين قد أُزيلوا عمدا من المشهد البصري خلال محادثاتي مع المستوطنين. فقد استخدم معظم المستوطنين الذين أجريتُ مقابلات معهم نبرة لا مبالية تقريبا عند الإشارة إلى المجتمعات المحلية الفلسطينية في جوارهم، كما لو أنهم يقولون إنها لا تشكل مجتمعا حقيقيا، أو أن فيها سكانا لديهم هوية متمايزة، أو شعبا متشبثا بمطلبه المشروع بالأرض. لقد تعمدوا إشاحة نظرهم عن الوجود الفلسطيني في المشهد المكاني. وفي إشارة إلى نزع الوجود الفلسطيني من المشهد البصري للمستوطنة، عبر أحد المستوطنين الذين تحدثت معهم، قائلًا: "نحن نحب الحفاظ على مناظر سلمية".
عزز غياب الفلسطينيين أيضا شعور المستوطنين بامتلاك السيادة على المشهد المكاني، وأمكن لهم أن يقولوا: "أنا لا أفكر في الفلسطينيين الذين يعيشون في الجوار. إذا أرادوا العيش هنا، لا بأس في ذلك. لكن عليهم أن يتذكروا أننا نحن أصحاب هذه الأرض".
يونغ: كيف كانت ردود فعل الفلسطينيين حيال المشهد المكاني للمستوطنات وجغرافيتها؟ هلا حدثتنا مثلا عن قرية وادي النيص، التي ذكرتها سابقا؟
سِن: عند زيارة القرى الفلسطينية، ولا سيما تلك الواقعة على مقربة من المستوطنات، تتلمس على الفور شعورا بالخوف، إذ إن هذه المجتمعات المحلية تخضع بشكل كبير لسيطرة ومراقبة وإشراف الجيش الإسرائيلي. ويلفتك أيضا الواقع المادي الملموس لمستوطنة إسرائيلية على قمة تلة تطل على قرية فلسطينية مجاورة. ويبدو للمقيمين في الوادي وكأن المستوطنة تهيمن على المشهد. لا يمكن للفلسطينيين صرف النظر عن الوجود المهيمن للمستوطنة في مشهدهم البصري. ولكن، على الرغم من ذلك، عثر الأشخاص الذين تحدثت معهم على طرق لتجنب التأثر سلبا بهذا الواقع، ولاسترداد حقهم في المشهد المكاني المحتل من خلال الاستراتيجيات التي يتبعونها في حياتهم اليومية للصمود والحفاظ على وجودهم.
وقد رأيت هذا الأمر بوضوح حين كنتُ في وادي النيص. عندما سألتُ فلسطينيا مسنا عن علاقة القرية بمستوطنة إفرات المجاورة، أجابني أنه ما من علاقة بينهما، موضحا: "هم يقيمون فوقنا، ويحاولون بذلك السيطرة علينا. يمكنهم إذا شاؤوا الاعتقاد بأن هذه الأرض لهم، لكننا نعرف أنها أرض فلسطينية. هذه الأرض لي، لقد ولدتُ وترعرعتُ هنا، وسوف أموت هنا".
وحين سألته كيف يتعامل مع واقع أن أرضه الآن يحتلها المستوطنون، أجاب: "يحاول الاحتلال أن يجعل من هذه الأرض سجنا لنا. هم يعرقلون تحركاتنا. وقد بنوا الجدران ونصبوا نقاط تفتيش لعزلنا عن أرضنا، لكنني أمشي على هذه الأرض حرا لأنها أرضي، على الرغم من أنني أعرف أن الجنود يراقبونني، (وأشار بإصبعه نحو إفرات) حتى أنني تسلقت هذه التلة واعتُقلت بسبب ذلك. لكنني عندما أفعل ذلك، أذكرهم وأذكر نفسي بأن هذه الأرض هي فلسطين". كذلك، يتعامل الفلسطينيون في قرى وبلدات أخرى، وفي مخيمات اللاجئين أيضا، مع وجود المستوطنات بالأسلوب نفسه، وقد توصلوا في الكثير من الأحيان، من خلال ممارسات يومية عادية، إلى طرق لاقتطاع حيز لهم مُنعتق من الاحتلال في مشهد عام خاضع لنير الاحتلال.
يونغ: ذكرتَ أيضا ملاحظة مثيرة للاهتمام مفادها بأن الجامعة العبرية في القدس، الواقعة على جبل المشارف، سعت إلى نزع الطابع الفلسطيني عن المشهد الجغرافي، على حد تعبيرك. كيف فعلَت ذلك؟ وهلا أخبرتَنا المزيد عن عملية التفكير وراء هذه الجامعة التي تأسست في العام 1918؟
سِن: كما أشرتَ عن حق، لقد تأسست الجامعة العبرية في القدس على جبل المشارف قبل ثلاثة عقود من قيام دولة إسرائيل.كان هدفها العملي أن تكون ملجأ للباحثين والطلاب اليهود الذين كانوا يُطردون بصورة منهجية من مؤسسات التعليم العالي في أوروبا. لكنها كانت أيضا مبادرة صهيونية ترمز إلى إعادة إحياء الوطن اليهودي وترميم الصلة التي قُطعت بين شعب اضطُهد ونُفي تاريخيا، ووطن أغدق الله على اليهود وعدا بالعودة إليه. يمكنك رؤية هذه الرمزية في تصميم حرم الجامعة، الذي بحكم موقعه على جبل المشارف، يطل بالكامل على قبة الصخرة، وهي أيضا موقع الهيكل الثاني. في الواقع، لفتت ديانا دوليف في كتابها الذي يحمل عنوان "تخطيط وبناء الجامعة العبرية، 1919-1948: قبالة جبل الهيكل" Planning and Building of the Hebrew University, 1919–1948: Facing the Temple Mount، إلى أنه كان يشار إلى الجامعة في الكثير من الأحيان باسم "الهيكل الثالث" خلال مراحل التخطيط. من ناحية العناصر الجمالية، استوحي المخطط الأصلي للحرم من فن العمارة العربية، لتحقيق تناغم مع المشهد المكاني المحيط به.
في هذه السردية التي تُروى من خلال تصميم الجامعة ومخططها، ما من اعتراف بالوجود الفلسطيني. بل واقع الحال أن العداء حيال الفلسطينيين جُبِل تاريخيا في دعائم الجامعة العبرية. قد يكون باتريك غديز وفرانك مييرز، اللذان وضعا المخطط العام للحرم، استخدما عناصر العمارة العربية في رؤيتهما للجامعة، لكن غديز كتب أيضا: "في وسع أي مراقب غربي أن يرى أن العرب قذرون، وفوضويون، ومتخلفون من نواحٍ كثيرة، وغالب الظن أن يغفلوا أو أن يجدوا صعوبة في رؤية ميزات مبانيهم، حتى تلك البيوت الجميلة المبنية على الطراز الدمشقي في القدس، بباحاتها الواسعة وغرفها الفسيحة، وما إلى ذلك". وأضاف أن على عاتق الصهاينة والجامعة الجديدة مسؤولية إظهار أفضل سمات العمارة العربية من خلال العناصر الجمالية للجامعة الجديدة بأقواسها العالية وقببها المهيبة.
يظهر هذا العداء أيضًا في الحرم المعاصر على جبل المشارف، وبخاصة أنه مليء بالرموز والرسوم القومية التي تدل على أن الجامعة تقدم خدماتها بشكل أساسي لدولة إسرائيل. كنتُ أجول ذات يومٍ في أروقة الحرم الجامعي، حين لمحتُ لافتةً خصصتها منظمة الأصدقاء الأميركيين للجامعة العبرية إلى أعضاء قسم هوليوود/ هالانديل، وكُتب عليها أن الجامعة العبرية هي "جامعة الشعب اليهودي". علاوةً على ذلك، يحوي الحرم الجامعي عددًا من القطع الأثرية التي تربط الجامعة بالتاريخ اليهودي، بهدف ترسيخ مكانتها كمؤسسة تسهم في إعادة إحياء التراث اليهودي. بطبيعة الحال، يشعر الطلاب الفلسطينيون بالإقصاء والاغتراب بسبب الأسرَلة المُنتشرة في الحرم الجامعي وبسبب مساعي نزع الطابع الفلسطيني عن مشهد مكاني يعتبرونه جزءا لا يتجزأ من أرضهم الفلسطينية ووطنهم.
تتجلى سياسات الحرم الجامعي، الواقع على قمة تلة، أيضًا من خلال طريقة هيمنته على المجتمعات المحلية الفلسطينية المجاورة، إذ تسمح للناظر من الحرم الجامعي بالتغاضي عن الوجود الفلسطيني في المنطقة. وخير دليل على ذلك قرية العيسوية المجاورة، الواقعة في سفح الوادي على الجهة الشرقية من الحرم الجامعي، والتي تُظهر التفاوت القائم بين الأماكن الإسرائيلية والفلسطينية. يتناقض المظهر الجمالي للجامعة، الذي تجري صيانته وتنسيقه بعناية، بشكل صارخ مع أزقة العيسوية المزدحمة والمليئة بالنفايات والتي تهملها بلدية القدس. ومنذ أكثر من عقد، لم يعُد يُسمح للمركبات من العيسوية بالخروج من القرية باتجاه جبل المشارف بسبب نقطة تفتيش عسكرية. وفي الكثير من الأحيان، تقوم الشرطة بتفتيش الطلاب الفلسطينيين والعاملين المتعاقدين في الجامعة، الذين هم من العيسوية، عند نقطة التفتيش قبل السماح لهم بدخول الحرم.
لكن بالنسبة إلى الذين حاورتُهم من سكان العيسوية، ينعكس جزءٌ كبير من تأثير الحرم الجامعي على المجتمعات المحلية الفلسطينية المجاورة من خلال واقع أن القرية تعيش، حرفيا، في ظله. في أيار (مايو) من العام 2016، اصطحبتني طالبة فلسطينية مقيمة في العيسوية تدعى سارة في جولة داخل القرية. وخلال سيرنا على أطراف القرية بمحاذاة الجامعة، قالت لي: "العيسوية مسقط رأسي". ثم توقفت عن الكلام فجأةً ونظرت باتجاه الحرم، وأضافت: "لكن، انظر إلى الحرم الجامعي، فهو يقع فوقنا. من العيسوية، علينا أن ننظر إلى فوق لنرى الجامعة على جبل المشارف. وهذا يعني أننا ننظر إلى فوق، فيما ينظرون هم إلى الأسفل نحونا. هذه هي العلاقة التاريخية التي تربطنا بالجامعة العبرية. هذه هي علاقتنا بالمستعمر. وجل ما يهدفون إليه هو جعلنا نختفي".
تعد هذه العلاقة أكثر وضوحا للعيان في الإطلالة من كلية جاك وجوزيف ومورتون مندل للدراسات العليا في العلوم الإنسانية، الواقعة على بعد أمتار قليلة فقط من سور الحرم الذي يفصل الجامعة العبرية عن العيسوية. حين عبرت المدخل الرئيسي للحرم في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2015، كانت العيسوية تظهر بوضوح عبر نوافذ كلية مندل الزجاجية الممتدة من الأرض إلى السقف. لكن حين جلستُ في البهو الواقع في الطابق أسفل المدخل، باتت القرية الفلسطينية في هامش مجالي البصري، وكان بإمكاني أن أختار تجاهلها. بدا الأمر كما لو أن المنظر من كلية مندل صُمم لمحاكاة غياب الفلسطينيين.
بعد أن أخذتني الدهشة بمدى سهولة اختفاء العيسوية من المشهد المكاني، سألتُ طالبة إسرائيلية كانت تجلس في البهو أثناء زيارتي، عن المنظر الذي تطل عليه الكلية. فقالت: "أعتبر نفسي يسارية وحين أنظر إلى الأسفل، أرى الفلسطينيين وما يفعله الاحتلال بسكان العيسوية. فهي تفتقر إلى إمدادات المياه المستمرة، وتتكدس فيها أكوام القمامة. لكن إذا جلست هنا ونظرت خارجا يمكنك بسهولة تجاهل العيسوية". عندئذ سألتها: "هل تعتقدين أن هذا المكان صمم بهذا الشكل كي يختفي الفلسطينيون حين ننظر من هنا إلى الخارج؟"، فأجابت: "أعتقد ذلك، نوعًا ما. يمكنك عند جلوسك هنا التظاهر بأن الفلسطينيين غير موجودين. حين أتى المانحون لتدشين المبنى، قالوا لنا أن نجلس هنا ونستمتع بمناظر صحراء يهودا، من دون أن يأتوا على ذكر الفلسطينيين".
وخلال محادثة مع طالب إسرائيلي آخر كان يدخن السجائر على الشرفة في كلية مندل، بدا واضحًا أن هذا المنظر يخدم الهدف المتمثل في تجاهل وجود القرية الفلسطينية لصالح الاستمتاع على نحو "حميد" أكثر بمنظر الصحراء في الأفق. فحين سألته عن العيسوية وعلاقتها مع الحرم الجامعي، قال لي إنه "حي عربي. هو مليء بالمشاكل. نحن لا نتعاطى كثيرًا معهم". ثم أضاف: "لكن من الجيد أنك لا تستطيع رؤيته ليلًا. فمنظر الصحراء في الظلام جميل جدا".
*مايكل يونغ: محرر مدونة "ديوان" ومدير تحرير في مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط.