في أي سياق يمكن أن نفهم هذا التصعيد الخطير على جبهتنا الشمالية؟
استدعاء السؤال ضروري لسببين، الأول : التوقيت، هذه الاشتباكات تزامنت مع الحرب على غزة، وربما تكون جزءا منها، فكما أن غزة هدف لإسرائيل، ليس بعيدا أن تكون الأردن هدفا لقوىً أخرى، تريد إشعال المنطقة كلها، الثاني : ضخامة الحدث وخطورته، صحيح أن جبهتنا الشمالية تتعرض، منذ سنوات، للهجمات التي يقوم بها تجار مخدرات، محسوبون على النظام السوري وحلفائه ( إيران تحديدا)، لكن هذه المرة كانت عملية الاشتباك أوسع في الزمان والمكان، وأشرس في المواجهة، وتجاوزت المخدرات إلى الأسلحة، وانتهت إلى اعتقال عدد من أعضاء المجموعة المهاجمة، ثم جرى الإعلان عن تفاصيلها بشكل غير مسبوق.
لكي نفهم ما حدث، يمكن الإشارة إلى ثلاثة مسارات، الأول : أن التهديد الذي استهدف الأردن كان مصدره مربع التحالف في سوريا، المليشيات هناك تمثل جيشا كبيرا (تعداده يصل إلى 40,000 عسكري)، يشكل جبهة حرب جاهزة، أجندتها معروفة اتجاه الأردن، سواء من جهة محاولة أضعافه وإشغاله، أو تهديده وجسّ نبضه، ورسالة التصعيد واضحة، تتناسب تماما مع أهداف إيران في المنطقة، وما تبعثه من إشارات لمختلف الأطراف المعنية في الحرب على غزة، أما اختيار الأردن كهدف إضافي فقد يعني التلويح بتوسيع دائرة الحرب، وقد يعني معاقبة الأردن على مواقفه.
الثاني : ربما تشكل هذه العملية الكبرى عسكريا، رسالة سياسية من أطراف أخرى خارج مربع التحالف السوري الإيراني، كرد على تصعيد الخطاب السياسي الأردني تجاه محور العدوان الأطلسي على غزة، وربما يصب فتح جبهة الشمال باتجاه (لفت النظر) لما يمكن أن يحدث لنا مستقبلا، وما يتوجب على الأردن أن يفعله على صعيد ترتيبات ما بعد العدوان على غزة، أخشى هنا أن تكون هذه الأطراف استدارت سياسيا، أو تفكر بذلك على الأقل، في سياق توزيع الأدوار القادمة على الفاعلين في المنطقة، ومنهم الأردن، الذي يبدو أنه غرد خارج سرب منظومة التحالف، وهي منظومة ثبت أنها تضم معظم الدول العربية، والدول الكبرى في الإقليم.
الثالث : يريد الأردن، بتقديري، أن يبعث برسالة إلى كافة الأطراف التي تقف وراء هذه العملية، أو الأخرى التي لها علاقة بما يحدث في المنطقة من تحولات، مفادها أن الدور الأردني في مواجهة التطرف والإرهاب، والتهريب بأشكاله، مازال قائما، وأن لديه القدرة على مواجهة أي تهديد لأمنه الوطني، التأكيد على الدور والجاهزية والقدرة والخيارات المفتوحة، لا يتعلق، فقط، بحدودنا الشمالية، وإنما يتجاوزها لما هو أبعد من ذلك، كما أنه رسالة للداخل الأردني الذي تقمص حالة الحرب في غزة، مفادها أن بلدنا في خطر من جبهات أخرى، وأن الدولة تملك عناصر القوة لمواجهة هذا الخطر، المهم هو الحفاظ على الجبهة الداخلية، ورفع الهمة الوطنية، والاستدارة نحو الداخل وقضايانا، والتحديات التي تواجهنا.
بصرف النظر عن أي مسار مرجح مما ذكرته سلفا، فإن بلدنا يواجه مرحلة مزدحمة بالأخطار والضغوطات والتهديدات، فسوى الروم خلف ظهورنا رومٌ نعرفهم، وآخرون ربما لا نعرفهم حتى الآن، هذا يستدعي أن نفتح عيوننا، ونحسب خطواتنا ومساراتنا بدقة، ثم نضع في اعتبارنا أن القادم يستدعي أن نفعل الكثير معا، وأن لا نسمح لأحد أن يعبث بنواميسنا الوطنية، أو أن يستقوي على حساب مصالحنا الكبرى، وأمننا الوطني، ووجودنا، كدولة ومجتمع، أيضا.