منذ أن تفتحت عيوننا على هذه الدنيا، ونحن نسمع من أهالينا عن الحروب والفوضى والفتن، وبعد أن أصبحنا في عمر أكبر رأيناها بأم أعيننا في كل هذا الوجدان العربي الذي يخصنا.
حروب في كل مكان، احتلال فلسطين، هو أساس البلاءات التي تم تركها لتكبر حتى امتد المشروع الذي ابتلع فلسطين إلى كل مكان، حيث عمّ الخراب اليوم سورية، لبنان، العراق، اليمن، ليبيا، وهذا المشروع لم يكن إسرائيليا وحسب، بل كان ممثلا لمشروع استعماري غربي، خرج بقواته من صيغة الاستعمار الكلي، إلى صيغ بديلة، من خلال وكلاء، أو عبر السيطرة على الموارد والثروات، والتدخل في تفاصيل الحاضر والمستقبل، والبنية السياسية بكل ما تعنيه.
السؤال الذي تسمعه دائما في كل مكان من الأجيال الجديدة بالذات يقول إلى أين نهرب، وأين يهرب العربي من هذه المنطقة التي باتت تتسلط عليها كل أسباب الفناء، والمحق اليومي؟.
والإجابة مؤلمة أكثر لأن الهجرات أيضا لها كلفتها ومخاطرها، إذ يكفي أن الهجرة إلى الدول الأجنبية تؤدي في النتيجة إلى شطب الجيل الثاني والثالث وما بعدهما من أجيال وأحفاد، وكثير من المهاجرين اليوم يقلقون على الأبناء والبنات، من مجتمعات جديدة غادروا إليها، ويحاولون قدر الإمكان صون الخصوصية الدينية والثقافية، فلا ينجح أغلبهم، مما يفسر أن بعضهم يعيد عائلاتهم وأبناءهم وبناتهم في عمر معينة إلى دول المنطقة تجنبا لشطب الهوية الاجتماعية، بما يعنيه ذلك من تأثيرات عميقة على الشخصية ومغذياتها الدينية والثقافية والحياتية.
هذا يعني أن كل الدنيا تعاني لدى العربي اليوم من الاختناق، فالعالم العربي تحل عليه اللعنات من كل مكان، وحتى الدول الآمنة لا تنجو من الفساد والاضطهاد وضيق الأفق ومصاعب العيش والغلاء وتردي التعليم والصحة والخدمات والتشظي الداخلي المؤجل تحوله إلى انهيار كامل بفعل عوامل اللصق المرتبطة على الغالب بوجود الأنظمة ومدة صلاحيتها في نظر من يدير هذه الأنظمة ويقوم بتوظيفها، لأجل مؤقت كما جرت العادة في أغلب الأحوال.
سؤال العربي حول مصيره وحقه بحياة كريمة يكاد يكون مجرد استحالة، لأن الغالبية الكبرى لم تعد تسأل هذا السؤال فهي تعتبره مجرد ترف أو وهم، برغم أنها تعيش في جهنم، لكنها تدرك أن لا بدائل ولا خيارات لدى الأغلبية سوى الاستسلام للمصير، أيا كان هذا المصير، ولعل المفارقة أن تجد أيضا بين هذه الغالبية من لا يدركون أصلا فروقات الحياة في بلادهم وبقية بلاد الله الواسعة، ويظنون أن حياتهم طبيعية تتماثل مع كل أنواع الحياة في بقية الدنيا.
الاستعصاء الذي يواجهه العربي يتعمق، لأن الأزمات والحروب في المنطقة لا تتوقف فهي تحرق الأحياء، والبقية يتفرجون ويأملون النجاة، فيما تثبت الأيام، أن هذه نجاة مؤقتة، وأن الكل يقف على ذات الطابور، فهذا عالم خرب بحاجة إلى مشروع ورافعة حتى يخرج من واقعه، وهذا أمر لا نراه في أغلب الدول العربية على المستوى الوطني، ولا على المستوى القومي، إن كان هناك بقايا للقومية بمعناها الذي تدرج في تراجعاته على مدى عقود بفعل التخطيط المحكم.
هذه القراءة للواقع ليست لطمية، لكنها تتطابق مع ما نراه يوميا، وما نستشرفه حول المستقبل، ولتطالعوا كل تقارير خبراء استشراف المستقبل في كافة القطاعات لتدركوا أن المقبل أصعب بكثير، والحلول تتناقص يوميا، فيما مخرج النجاة بالهجرة بات أيضا غير متوفر بالطريقة القديمة، ولا يمكن أيضا احتمال كلفته على الأبناء والبنات، ولا يعبر إلا عن نجاة مؤقتة.
هذا يعني أن العربي سيبقى بين خيارين، البقاء في بلده أو الهجرة للخارج، وكلاهما يعبران فقط عن نجاة مؤقتة.