امرأة ورجال
بقلم: د. آية عبد لله الأسمر
جاءتني ودموعها المنقوعة في سنوات من الذل والعبودية بطول سنواتها العشرين، تنساح على خديها المتأججين تمردا وقهرا، بكت بحرقة امرأة يصلبها القدر على أرصفة مدينة شرقية ذكورية حتى النخاع، انتحبت بصوت ممزق عند أقدام إبن السلطان في عصر الجواري المنهكات المنتهكات، نظرت إلي بعجز أمة مكبلة بأصفاد الاستبداد المتقيح على وجه شرقية هاربة من الحرملك.
باغتها بسؤال ترنح على شفتي الدهشة المشتعلة في عيني: "وهل يبكي الياسمين؟ صديقتي... لأول مرة أشعر أن ندى الأزهار دموعها، وأن عطرها هو رائحة الحزن النابت على أوراقها المتعبة، ما الذي يبكيك؟ ويدمي قلبك الصغير؟".
أجابتني جدائلها المضفرة بالخوف المبلل بليل الصمت والوجع والقهر: "يريدونني أن أتزوج...".
خرجت شهقتها رغما عنها تؤازر خربشات الحزن الدامعة على أعتاب طفولتها الخائفة: "لا أريد... أريد أن أتابع دراستي... أريد أن أحصل على شهادة علمية تحميني من نوازل الدهر وتقلبات الزمن وغدر الأيام، لا أريد أن أحيى عالة على أخ أو ضيفة على زوجة أخ، لا أريد أن يعبث بي الآخرون لضعفي وحاجتي".
انفجرت براكين القهر المسجاة على أعوام من الطغيان والعبودية ترشق شظايا رجاء يحترق: "عامان فقط... لماذا لا ينتظرون عامين فقط؟ بالنسبة لهم لا داعي... وبالنسبة لي فهذان العامان سيغيران معالم حياتي بأسرها، عامين سأكمل خلالهما دراستي وأتمكن من بعدهما العمل والانطلاق إلى آفاق أرحب في العمل والحياة والناس، سأتزوج لاحقا، وستصبح الفرص آنذاك أوفر وأفضل".
صمتت وهي تراقب جيوش الدمع المنهارة على أسوار اليأس المندس بين عباءات وجهها، ثم تابعت وأنا أراقب لأول مرة في حياتي روحا تنزف دما، وقلبا بنقاء الكوثر يتكسر قهرا، وندى يجف وجعا، وأوراقا تذبل على أغصانها في وضح نهار الربيع: "يفكرون فقط في الخلاص مني ومن نفقاتي، والتخلص من أنثى تمثل مشروع فضيحة مدفونا في أدراج الوقت، يعتقدون أنهم يرسمون النهاية المتوقعة والطبيعية والحتمية لحياتي كامرأة، رجوتهم أن يتريثوا فقط، فمن منا لا ترغب بالزواج والاستقرار والإنجاب؟ أريد مثل كل الفتيات أن أرفل بالثوب الأبيض المطرز باللؤلؤ والزغاريد وتهاني الأهل والصديقات، أريد أن أحضن طفلي وأهدهده قبل النوم وأصحو على صوته المنسوج بعبق الحياة والفرح والحنان وهو يناديني: ماما...".
صمتت مرة أخرى وهي تندس بحزنها وقهرها، وراء نظرات شردت عني، وراء زجاج النافذة المطلة على مستقبل يصر على الهروب منها، وظل صمتي قابعا في جوف الوجع، يتابع تفاصيل امرأة تحترق: "أريد رجلا يفهمني ويستوعبني، ويفرح لفرحي ويتألم لحزني، ويشعر بوجودي ويهتم لأمري، ويشاركني أفكاره ويبثني همومه، ويسألني رأيي، ويثمن فكري، ويحس بمشاعري ويقدر إنسانيتي، ويمنحني الحب والثقة، والمساحة التي تمكنني من الإحساس بكياني وتحقيق طموحي والشعور بوجودي، كإنسان مستقل ووجود منفرد له نجاحاته وإخفاقاته، دون أن يلغي وجودي ويربط أهميتي به وبمقدار ما أوفره له من راحة ومتعة".
نظرت إلي وأشباح ابتسامة هازئة تسخر من اثنتينا تتسلق على شفتيها المرتجفتين: "إلا أنهم لا يعبؤون إلا بالثمن الذي سيقبضونه، ولا يكترثون إلا بالوقت الذي يضيع من بين يدي وأيديهم مع كل يوم يمر علي بلا رقيب أو سياف أو زوج يستر علي وكأنني...".
توردت وجنتاها خجلا، فحملت عنها بعضا من العبء وتابعت: "ربما يمنحك العريس المنتظر ما تريدين من حياة كريمة تشعرين فيها معه بالراحة والطمانينة والسعادة، ربما يسمح لك بإكمال العامين المتبقيين لك، ربما يكون هذا الرجل صديقا حنونا لا سيافا أو رقيبا أو جلادا".
نظرت إلي بمرارة امرأة يفاجئها زوجها بزواج ثان بعد عشرين عاما من العشرة والخدمة والعطاء، وأشباح الابتسامة تموت تحت أقدام الغضب المبعثر على قسمات وجهها المخذول بطعنات الغدر المدسوسة في كلامي الموصوم بربما...
"ومن قال أنني كرة يرميها الأهل ليتلقفها الزوج؟ من منحهم الحق لأن يتحكموا في كل شيء في حياتي من مأكل وملبس ونزهة وهوايات وصديقات؟ من قال أنهم أوصياء علي في الحركة والثبات والصحو والنوم والابتسامة والكلام؟ لماذا يشاءون لي ويقررون عني ويعتقدون ويفضلون وينبذون دون أن يكون لي رأي؟ لا أريد الزواج الآن، أريد أن آخذ فرصتي في أن أشعر بأنني إنسانة دون أن يكون لأحد وصاية علي ولو لعام أو حتى لبضعة أشهر، أليست هذه أبسط حقوق الحرية الإنسانية؟".
تابعت تفاصيل الحقيقة وهي تئن على أعتاب زنزانة رجل من القرن العشرين، بقلب رجل حجري وثياب رجل يشعل سيجارة صديقته في ملهى ليلي، هممت بأن أقول شيئا، لكنني تراجعت أمام نهوضها المفاجئ، وهي تنظر في عيني العاجزتين، بعينين حفرتا بكعب التحدي والكرامة حروف قرار لا رجعة فيه: " لن أتزوج، سأكمل... سأهرب... سأنتحر... لكنني لن أكون شاة تسلّمها يد البائع ليد المشتري، سأغلق سوق النخاسة ولن أستسلم لواجهات العرض لمن يدفع أكثر منذ اليوم، أنا قادمة يا حمدة...".
وانصرفت قبل أن أجيب، وأنا ما زلت أفكر بماذا أجيب؟!؟