بقلم د المخرج محمد الجبور - يعزو العديد من الباحثين غياب التعددية السياسية والديمقراطية في العالم العربي إما إلى الثقافة السياسية التقليدية المستمدة من الإسلام، أو إلى ضغط الوضعية شبه الاستعمارية التي عرفتها ولا تزال تعرفها البلاد العربية التي توجد في منطقة حساسة من الجيوسياسية العالمية، والتي تتميز باحتوائها على أهم احتياطيات الطاقة في العالم، أو أخيراً إلى المشكلة الإسرائيلية وما أثارته من استجابات كان من ثمرتها زيادة الاستثمار في القوات المسلحة وتضخم هذه القوات من حيث القدرات المادية والسياسية معاً، وهناك من يرى أيضاً أن الديمقراطية كانت ضحية للأولوية التي أعطيت لمسألة التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
تسيطر تفسيرات محافظة لحركة المسلمين السياسية في التاريخ على أفكار الكثير من المنظرين العرب الذين يقدسون فعل الإنسان في التاريخ ويخشون نقد العديد من حقب التاريخ لأسباب عديدة بالتأكيد يلعب التفسير السائد للإسلام اليوم -وهو تفسير محافظ ومعاد للغرب وقيمه الثقافية والسياسية معاً- دوراً مهماً في تقليل فرص نمو الوعي الصحيح بشروط تكون هذه البنية المفقرة وآفاق تغييرها، كما يعلب دوراً كبيراً في عرقلة نشوء وعي ديمقراطي صحيح أو في إبطائه أو تشويشه خاصة عندما تظهر الديمقراطية بالنسبة لقطاع من الرأي العام وكأنها معادية للدين. وبالمثل تلعب الهيمنة الإمبريالية -القوية استثنائياً في منطقة المشرق العربي- وأداتها الرئيسية وشريكتها معاً الاستعمار الصهيوني دوراً مهماً أيضاً في ترسيخ هذه البنية الإفقارية بقدر ما تضيق من خيارات النخب المحلية وتردعها عن اتخاذ مبادرات مستقلة جريئة. لكنهما لا يفسران لوحدهما تفكك الوعي الديمقراطي القائم ولا الكساح البنيوي الشديد وبالتالي لا يفسران التعثر الذي تواجهه عملية الخروج من النظم التسلطية والشمولية العربية وتفكيكها وبالتالي انغلاق آفاق الانتقال نحو الديمقراطية التي تشكل كممارسة تاريخية موضوع تفكيرنا
وبدل أن تفسر غياب الديمقراطية تشدد على سيطرة الثقافة التقليدية إلى إضفاء الشرعية في الواقع على النظم القائمة بقدر ما تربط مستقبل هذه الديمقراطية وقدرة المجتمعات العربية على الانتقال إليها بتغيير جذري في الثقافة وتجعل من هذا التغيير شرطاً لأي خطوة في اتجاه الحياة السياسية والفكرية الحرة. وقد قاد هذا التفكير ولا يزال إلى موقف يبرر استخدام القوة في سبيل تغيير الثقافة الدينية والاجتماعية ونشر ما يسمى بالعلمانية وبث الروح العقلانية والعلمية في المجتمعات العربية أما التي تجعل من الضغط الاستعماري والتبعية منطلقاً لفهم تردد النخب في بناء نظم سياسية ديمقراطية فهي تثبط همم أي قوى تغييرية وتدفع للاستقالة السياسية والمعنوية بقدر ما تروج لموضوعية خاطئة وخطيرة مفادها بأن النخب المحلية غير قادرة على انتزاع أي هامش استقلالية في سلوكها بمواجهة قوى الهيمنة الدولية، وهي تفسر التبعية بصورة ميكانيكية وسطحية يفهم منها أن النخب التابعة لا عقل لها ولا إرادة خاصة ولا تقوم إلا بالتنفيذ الآلي والمباشر للأوامر التي تعطى لها وتطلب منها
من العوامل الموضوعية يمكن أن تفسرا بشكل أكبر تعثر الديمقراطية وتباطؤ السير على طريقها، وهو الطريق الذي تسير فيه اليوم، وسوف تسير فيه جميع الدول والمجتمعات الإنسانية، فالديمقراطية لم تعد نموذجاً لشعب أو ثقافة أو مجتمع، ولكنها الصيغة الوحيدة التي تبدو اليوم في منظور القيم والمفاهيم السياسية السائدة قادرة على أن تؤسس لماهية الإنسان كإنسان سياسي، أي كمواطن حر ومسؤول وصاحب هوية سياسية تجمعه مع غيره من المواطنين