الخطاب الرث؛ الذي يخرج متلعثما هذه الأيام، يبعث على الخجل حقا، وإن ردده وتحدث خلاله بعضهم عن غير علم ولا هدى، فهذا ضرب من الغباء، ولا خطر في الغباء الا حين يكبر ويصبح أفكارا بحجم وباء.
رجال الأمن العام، وكل عسكري في الأردن وفي بلدان كثيرة، لا علاقة له بالسياسة، فالشرطي أينما يمكنكم مشاهدته، فهو يقوم بواجب، وينفذ قانونا، وتعليمات وأوامر عسكرية، تحددها توجيهات سلطات معنية بحفظ أمن دولة، والحفاظ على أرواح وممتلكات الناس والدولة، ومن العبث وقلة الوعي ان تحاول أن تثني شرطيا عن القيام بواجبه، فهو لن يفعل مهما حاولت، لأن تصرفه في هذه الحال هو تقصير بواجبه..
نقول هذا تذكيرا للناس، المتحمسين منهم، وحتى الأوغاد، والمتصيدين في الماء العكر، او الراقصين على جراح ومصائب الفلسطينيين، فكان وما زال حريا بكل من يريد التعبير عن مشاعره ومواقفه تجاه جرائم العدو الصهيوني في فلسطين، وحرب الإبادة المجرمة في غزة، أقول بانه حري به ان يرتقي بتعبيره إلى مستوى الحدث، ويحترم ويقدّر حساسية الموقف، حيث لا يمكن لأي أحد ان يزايد أو يناقص على مشاعر وقناعات ومواقف ومبادىء الأردن، قيادة ومؤسسات وشعبا، فالجميع منصهر في نهر الغضب، ويكابد من آثار وأخبار الجريمة التاريخية التي تقع بحق الفلسطينيين، وفي خضم هذه الجريمة (المَقتلة) للناس والحياة، يجب ان نحذر ونحسب كلماتنا أمام الناس الغاضبة.
لم تتوقف المظاهرات الشعبية العارمة في الأردن منذ ما يقارب 6 شهور، وهذا أقل القليل الممكن الذي تستوعبه الدولة حول مشاعر الأردنيين، فهي مشاعر صادقة تجاه فلسطين وشعبها المبتلى، وهي ذات المشاعر والرأي لدى الدولة، لكن الدولة فيها مؤسسات تعمل وفق قوانين، وفي حالة المؤسسات العسكرية والأمنية، لا يمكن ان تجري إدارة الأحداث الأمنية وفق اجتهادات، بل بقوانين، ينفذها رجل الأمن بحذافيرها، ولا يتدخل في السياسة أو يناقش هذه التعليمات والأوامر المكلف بتنفيذها.. ومع تمام علمنا بأن الأخطاء تحدث إلا أننا لم نسجل أخطاء سقط فيها جهاز الأمن العام، لا في موضوع حماية المتظاهرين السلميين والغاضبين بشأن حرب الإبادة البشعة، ولا حتى قبلها من أحداث، فالعقد الأخير من عمر دولتنا يشهد حركات احتجاج شبه يومية، وأحيانا تكون هناك عشرات الاحتجاجات في اليوم الواحد، ومن الطبيعي ان تحدث أخطاء في هذا الزخم والكثافة في الاحتجاجات، لكن وبحمد الله لم يحدث شيء، وهذه علامة عافية في بلد ديمقراطي، تبين حجم الوعي والرشد والالتزام الذي يتمتع به رجال الأمن العام ومسؤولوه، وبالطبع حجم الوعي والتحضر لدى المتظاهرين فهذه ميزة تحسب للشعب الأردني، الذي بات أيضا يتمتع بمنسوب ثقافي ديمقراطي لا يستهان به..
أمس الأول شاهدت فيديو، ظهر فيه مسؤولون أعرفهم شخصيا، وهم من مسؤولي وقيادات جهاز الأمن العام المعروفين، حيث شاهدت مساعد مدير الأمن العام للعمليات، العميد أنور الطراونة، في الميدان (الرابية)، ولا يمكن ان يكون مسؤول في جهاز الأمن العام بهذا الحجم يتواجد في ميدان الحدث، ليطلق توجيهات للاستهلاك الإعلاني، فقد ظهر في الفيديو وهو يوجه رجال الواجب بان لا تتقدموا باتجاه المتظاهرين نهائيا، وهذا امر عسكري لا يمكن لشرطي واحد ان يتقدم عن الصف أو الخط مترا واحدا، وكذلك ظهر مسؤول ميداني آخر من قوات الدرك، يوجه تعليمات حاسمة لقواته، ممنوع الاقتراب من المتظاهرين، ممنوع الخشونة مع من يتقدم من المتظاهرين.. وهذه أيضا اوامر عسكرية حاسمة، ولن يتجاوزها شرطي واحد.
بالطبع لن يفهم فكرة ولغة مقالتي هذه حزبيون وسياسيون كثر، وهذا أمر متوقع وربما طبيعي، فالسياسي الرسمي بالكاد يتفهم حجم الواجب الذي سيلقى على أكتاف رجال الأمن حين يصرح للإعلام ولغيره، بآراء واجتهادات، وكذلك نقول عن الإعلامي والمعلق الذي يتناول اجتهادات وتصريحات السياسيين ويضيف عليها «قلة معرفته ومحدودية نظرته»، لكن الخطأ الأكبر يكون في تصريحات بعض السياسيين المتظاهرين، فهم كما المطربين في سهرة عفوية، لا يدققون بكلامهم، وتأخذهم العواطف وربما النوايا السليمة والخبيثة لزوايا وحواف حادة، لا يفهمها الجمهور او يكون الهدف منها مجرد إثارة هذا الجمهور، ولا أحد من السياسيين كلهم، يفكر فعلا برجل الأمن المزروع في الأرض ينفذ واجبا مقدسا، ولا يهادن أو يساوم أو يقصر أو يتمادى فيه، مهما تعرض لتحديات.
للسياسيين ولحاضري وغائبي «الفيلة»، من أصحاب النوايا الحسنة والسيئة او بلا نوايا: احترموا الأردن ومواقفه وتضحياته، واحترموا رجل الأمن، فكل مافي الميدان يتغير بناء على المزاج والأحداث، إلا رجل الأمن، فهو صامد لأداء واجبه المقدس، وبفضل جهوده، نرفل جميعا بالكرامة والعزة في بلدنا وبيوتنا وحياتنا، إنه لمن المخجل بل «المخزي» أن يفعل الأردن كل الذي فعله وقام به تجاه الجميع، ثم تجري المزاودة عليه كما تجري محاولات اختطاف كل جهوده الطيبة، وتشويهها.. لا تأخذونا للهاوية فلن يستفيد عندئذ سوى عدونا المجرم.