لسان حال المعلمين يقول: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
ضّيعنا هذا المعلم بتعليماتنا وأنظمتنا وقيودنا، فكان سبباً في ضياع الأجيال، فهذا ما جنته وحصدته أيدينا، فقد زرعنا معلماً مسلوب الحقوق، وحصدنا الخيبة مترعة.
يجهل كثير من المعلمين حقوقه وواجباته، وتساهم بعض الإدارات على كافة المستويات في سياسة التجهيل، وخاصة بالتغاضي عن الحقوق والمطالبة بالواجبات، مع أن الأصل أن يُعطى الإنسان حقوقه أولاً ثم نطالبه بالواجبات. ويتحمل المعلمون قسطاً كبيراً لعدم درايتهم بما لهم وما عليهم، وسكوتهم ورضاهم بما يقع عليهم من ظلم، وهم من فرعنوا هذه الإدارات، ومنحوها سلطة لا تستحقها، ووهبوها مكانة لم تكن لها أهلاً في يوم من الأيام.
من حق المعلم أن تُوفر له كل سبل النجاح في عمله، وأن لا يُحرم من أبسط المستلزمات الضرورية ليكون معلماً ناجحاً ومؤثراً فيمن يدرسهم ويعلمهم، ولكن الناظر لأغلب معلمينا يجد أنه ينطبق عليهم قول الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
المعلم محروم من أبسط الأمور، فهل يعقل أن لا يجد المعلم مقعداً يجلس عليه في استراحته، أو مكتباً يضع عليه كتبه وأوراقه، أو يجد مكاناً ملائماً. بل إن بعضهم لا يجد لوحاً مناسباً يكتب عليه، ولا غرفاً صفية تصلح للتعليم. أما المختبرات والمكتبات والحواسيب فهي من الأحلام في كثير من المدارس. ثم يقارنون بين معلم في مدرسة فقيرة ومعلم في مدرسة محظوظة.
أما القرطاسية فحدث ولا حرج، فيطلب من المعلم أن يصور امتحاناته (عدا النهائي أحياناً) على حسابه، وأدوات التقويم على حسابه، وخططه على حسابه، وأوراق العمل على حسابه، وتوفير الأقلام على أنواعها على حسابه، بل والطباشير الملونة ومساحة اللوح على حسابه، وأي وسيلة يريد أن يعملها على حسابه، حتى إنَّ البعض يُدخل علاماته في منظومة الـ EduWave على حسابه، وإن احتج أو اعترض أو لم يفعل، فيتهم بالتقصير وعدم الكفاءة وإضاعة الطلبة، وأنه لا يقوم بعمله، وقد توجه له العقوبات، وتعقد له لجان التحقيق، وكأن المعلم مسؤول أن يصرف على المدرسة وينفق عليها من جيبه الخاص. وفي المقابل هل يطلب من أي موظف في المديريات والوزارة أن يشتري أي شيء على حسابه؟ بل إنَّ العمل يتعطل إن حدث نقص في أمر من الأمور ولا يحاسب أحد أحداً، فهذا أمر متفق عليه. أما عندما يتعلق الأمر بالمعلم فهناك ألف سؤال واستجواب.
أنصبة المعلمين تتفاوت بين مدرسة وأخرى، بل بين معلم ومعلم في المدرسة ذاتها، وتتمسك التربية بنظام عثماني للأنصبة لا يراعي التخصص والمقدرة، بل تحسبها مشايلة وبالجملة، ولا أدري كيف يستطيع أي معلم مهما امتلك من قدرات وطاقات أن يعطي خمس حصص في اليوم؟ ولو أردنا تدريساً جيداً ونوعياً لما زاد عبء المعلم اليومي عن ثلاث حصص، ولكنها سياسة الكم والكوم التي أثبتت فشلها وما تزال.
أما الخطط الفصلية وتحليل المحتوى وأدوات التقويم وجداول المواصفات وحتى الاختبارات النهائية فالمفترض أن تكون من واجبات الوزارة كون المنهاج موحد، والعام الدراسي واحد، ولكن الوزارة تعذب المعلمين بها كل عام وبشكل عبثي دون جدوى حقيقية، وأي دراسة علمية محايدة ستثبت هذه الحقيقة.
النقل الداخلي وتحديد المراكز المتواصلة طوال العام الدراسي لا تخضع غالباً إلا لأهواء المسؤول ورأيه الأوحد، وما يرافقها عادة من وساطات وهواتف وتدخلات لمصلحة هذا أو ذاك، رغم وجود بعض المحددات التي تفسر غالباً حسب ما يرتئيه المسؤول.
وتأتي المواصلات في مقدمة المشكلات التي يعاني منها المعلم، وهي جزء كبير من حقوقه المضيعة، فكيف يستقيم أن يُعين معلم قرب بيته ولا يدفع مليماً واحداً، ومعلم يعين على بعد لا يقل أحياناً عن مائة كيلو متر ذهاباً ومثلها إياباً دون أي مقابل إطلاقاً، مع ما يتبع ذلك من جهد كبير، ووقت طويل، ثم يستلمان في نهاية الشهر راتباً واحداً، ثم يدعون العدالة والنزاهة وتساوي الفرص.
وأعظم الحقوق المضيعة للمعلمين، وهي قاصمة الظهر، وسبب تغييب أغلب الحقوق هو حرمان المعلمين من حقهم في نقابة تنظم شؤونهم وتسندهم وتحميهم من المتغولين، وتعمل على تطويرهم وإنصافهم والمطالبة بحقوقهم. والناظر يلحظ بوضوح أن منتسبي النقابات يحظون بالعلاوات المجزية التي لا تقل عن 100% ، في حين أن المعلمين يُمنُّ عليهم بعلاوة لا تتعدى 50%.
القائمة تطول، والحقوق المضيعة كثيرة، والهموم لا كاشف لها إلا رب العالمين. ومما يؤسف له بل ويدمي القلب أن المعلم الذي يطالب بحقه يتهم بالتمرد والمشاغبة وعصيان الأوامر، والمعلم الصامت الأخرس يؤكل حقه دون أن يرف للبعض جفن، أو تختلج لهم عضلة، أو يتأثر لهم إحساس، وكأن المعلمون عندهم هم مجرد أحجار شطرنج يحركونها كيفما أرادوا، وأينما شاءت أهواءهم.