منذ أن وعيت على الدنيا رأيت جدتي ترتدي الثوب الأسود وأحياناً الكحلي الغامق جداً. في ذلك الزمن كانت أمي وعماتي وخالاتي ونساء القرية يرتدين الأثواب، أغلبها أبيض، المطرزة بالحرير الملون على أشكال أغصان البرتقال والليمون. خط عريض يبدأ من الخصر حتى القدمين، ومثله على الكمين، وعلى الصدر مربع بألوان الربيع. وعلى الرأس شاش طويل أبيض على حوافه تطريز رفيع أزرق أو أحمر. يلف الشعر والظهر حتى يخيل اليك أن المرأة منهن شجرة لوز أو جورية أو حورية.
ما عداها جدتي وقلة من النسوة المسنات الفاقدات لعزيز.
كنت الأحب إليها. فأنا البكر من الأولاد ابن البكر من أبنائها. حضنتني بحنان عادل حنان أمي التي كانت منشغلة بتربية أشقائي و شقيقاتي الأصغر مني. أينما تذهب تأخذني معها، حتى أن بعض النساء كن ينادينها باسمي معتقدين أني ابنها.
سألتها عندما لاحظت اختلاف لون ثوبها عن باقي الأثواب « ليش يا ستي لابسة ثوب أسود؟» ضحكت وقالت لي « هذا يا ستي من يوم مات أخوي حسين قبل حوالي خمسين سنة - كانت في الثمانين - حديت عليه وظليت ألبس الأسود، الثوب و الشاش «. شقيقها حسين توفي بعد أن أنجب ولداً أسماه علي و بنتاً.
في عام النكبة 1948 تشتت العائلات. علي ذهب مع عائلته الى غزة وأقام هناك ولم تره من يومها. في عام الهزيمة في ستة أيام 1967 أصبح بامكان أهل غزة أن يأتوا الى الأردن ومنهم علي ابن شقيقها حسين. رجل وقور على مشارف الستين، يشبه أبي جداً حتى أنك لا تميز بينهما وصحيح ما قالوا أن « ثلثين الولد لخاله « وهذا ما انطبق على أبي وخاله حسين.
كانت فرحتها لا توصف وهي تحضن ابن اخيها الذي لبست الأسود حداداً عليه.
تحدثني : « علي يقول لي أن الله لم يرزقني أخوة فرزقني ستة أولاد، علمتهم كلهم منهم الطبيب و المهندس و المحاسب والمدرس. قلت له يا عمتي اثنين بدل ابوك واثنين بدل اخوتك واثنين لك «.
منذ ستة اشهر وأنا كغيري أتابع أخبار العدوان الوحشي الصهيوني على غزة. ومع أن أهلها كلهم أهل كل عربي شريف يحزن لضحايا الجرائم غير المسبوقة في التاريخ الحديث ويحزن أكثر لحالة الهوان التي وصلت اليها الأمة، الا أني أدقق في أسماء الشهداء بحثاً عن بعض عائلات قريتنا التي هجرها الاحتلال عام النكبة الى غزة ومنها أخوال أمي. وبالفعل سقط منهم شهداء وجرحى و كلهم نزحوا من مخيمات البريج و الشاطئ والنصيرات وخانيونس وغيرها ولا ندري أين هم الآن.
على باب عيد الفطر أتساءل، كيف سيعيد أهل غزة، كيف يصافح من قطعت يديه، ومن فقد عائلته، ومن استشهد أطفالها ؟ كيف يزور من بقي حياً الأموات في المقابر وقد جرَف الاحتلال المجرم القبور ودفن الجرحى أحياء ؟ بل وكيف يعيد أهل غزة وسط هذا الركام الذي تحته شهداء ؟
أمضينا رمضان من دون زينة رمضان. كانت لقمة الفطور و السحور مرة في أفواهنا ونحن نرى أهل غزة جياعاً. ليس ثمة عيد فطر. تكفي القهوة السادة. سنخبئ الحلوى لعيد نصر آتٍ، وقريباً جداً.