يشير الحراك الشعبي الجاري على الساحة الأردنية الى أن هناك فعلاً أيادي خفية ترغب في صب الزيت على النار في الوقت غير المناسب، وإلا ما معنى ما يبدو عليه هذا المشهد هذه الأيام؟ ليسأل الجميع نفسه عن سبب تزايد وتيرة المظاهرات الليلية في الشارع الأردني على نحو مفاجئ في الآونة الأخيرة؟ لم يحدث هذا في أوج معركة غزة نفسها، فلماذا يحدث الآن بهذا التسارع؟ يمكننا أن نؤكد أن معظم المتظاهرين نواياهم حسنة، لا أحد يشكك بذلك، فالأحداث في غزة تسارعت لدرجة أنها أرغمت كل الشعب الأردني على الخروج تعبيراً عن رأيه بطريقة سلمية، من هنا تساهلت الدولة مع المسيرات في الجامعات الكبرى ثم مع استقرارها لتكون بعد صلوات الجمعة في المدن الكبرى وبحماية ورعاية من رجال الأمن العام، كانت المسيرة تقطع مسافات لا تتعدى مئات الأمتار ثم تتوقف وتنفض تلقائياً، هذا ما درج على ترتيبه مناصرو الاتجاه الإسلامي على وجه التحديد كل يوم جمعة تقريباً، لن نتجاهل طبعاً تأثير بعض الوقفات الأخرى هناك وهناك مقابل السفارات الامريكية والغربية والمصرية وغيرها، الى أن انتقلت هذه المسيرات بقدرة قادر لتلتحم بمن فيها من يساريين واسلاميين ووطنيين في بوتقة واحدة ليتفق على تثبيت موقع التظاهر الدائم ليكون في الرابية قرب محيط مبنى السفارة الإسرائيلية في عمان، كلنا يعرف رمزية اختيار هذا المكان بالنسبة لمنظمي هذه المسيرات، فالموقع يبعد عدة كيلومترات عن مبنى سفارة الكيان التي هي بالأصل مغلقة ومهجورة حالياً.
رغم كل الظروف، استمر الأمن العام مشكوراً في تحمل مسؤولياته في حماية خط سير المتظاهرين وتنظيم وقفاتهم وتظاهراتهم السلمية وضمان عدم اغلاق الطرقات أو الاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة، الى أن تدخلت الفتنة وتجرأ قلة من المتظاهرين في تجاوز الحدود المتاحة والإقدام على اغلاق شوارع رئيسة أمام حركة السيارات تبعها رشق حجارة، ولم تكتف هذه الفئة بذلك، بل عملت على إقحام العنصر النسائي في حراكها بما فيهم الأطفال، وعملت منهم دروعاً واهية لإشغال فتيل الفتنة بين المتظاهرين وقوات الأمن، وبدأ التغيير في لغة الهتاف لتصبح هتافات بذيئة تمس الوحدة الوطنية، وكأنه إنكار منهم للجهود الشعبية والرسمية الأردنية الكبيرة في دعم الأشقاء في غزة وفي رفض سياسة التهجير وفي محاولة انقاذ ما يمكن إنقاذه، إذا كان المجتمع الدولي ودول العالم برمته غير قادر على لجم العدوان الإسرائيلي على غزة فكيف تطلب هذه الفئة من الأردن الرسمي اليوم أن يتدخل ويوقف الحرب بمعرفته؟ هل تعتقد هذه الفئة أن الاردن يملك عصاً سحرية قادرة على ذلك؟ علينا أن نعترف، نحن صحيح دولة صغيرة بحجمها لكنها كبيرة بدورها السياسي وبعلاقاتها الدولية التي تستثمرها قيادتنا بحكمة لتصب في صالح قضيتنا الفلسطينية.
هنا علينا أن نسأل بصوت عال، ما أهداف هذه الزمرة الحاقدة؟ هل بخلق الفوضى نكون بذلك دعمنا أهل غزة؟ يكفنا أننا نثق بجهاتنا الأمنية أنها على درجة عالية من اليقظة والوعي، فهي تعرف هذه الفئة ونواياها وكيف تتعامل معها، أما ما نعرفه نحن، هو أن الذي لا يهمه وطنه وأمن مواطنيه، ودور الأجهزة الأمنية ليس بمواطن صالح. ناهيك عن دور الجيش العربي القوات المسلحة الأردنية وتحديدا قوات حرس الحدود ودورها الكبير في حماية الحدود الشمالية والشرقية من بعض المخربين الذين يريدون زعزعة أمن الأردن واستقراره، من خلال الدخول عنوة الى الاراضي الاردنية ونشر الفوضى واعمال العنف لينالوا من هذا الوطن العصي عن مطامعهم، ودورهم الكبير والمميز في عمليات الانزال الجوي التي تتم بصورة يومية على قطاع غزة، وكذلك الدور الكبير لنسور سلاح الجو الملكي في حماية الأجواء الأردنية من الأحداث الملتهبة التي تحاوطه. إذن في ضل ما يحاوط وطننا الأردن من مشاحانات وأجواء خارجية غير مستقرة، لماذا نقوم على نشر الفوضى داخل حدود هذا الوطن، ونزيد من حجم مسؤوليات أجهزتنا الأمنية وجيشنا العربي؟
ما جرى في الرابية وفي أماكن أخرى مؤخراً هو تجاوز لحدود الوقوف مع غزة كونه وصل الى حد الحض على تدمير الأردن، لا يمكن للهتاف أن يكون مظهراً رفيعاً من مظاهر التضامن مع الشعب الفلسطيني الشقيق ما لم يصاحبه بالمقبل الحد الأدنى من العمل، واثبت الأردن على الدوام بمعرفة القاصي والداني والعدو والصديق، أنه الأصدق قولاً وعملاً منذ اليوم الأول بعد السابع من أكتوبر رغم شح موارده واستهدافه في حدوده ومياهه وحتى أسواقه، وكيف جابه الضغوط والمقترحات لإبعاده عن دوره الدولي والاممي والإسلامي والعربي والوطني، وكيف مارس بشراسة وحيداً دوره الداعم لصمود اهلنا في غزة بعيداً عن صخب الإعلام، لعل دور المستشفى الأردني، ودور نسور سلاح الجو وأبطال الجيش العربي الذين حملوا مئات الاطنان من المواد الغذائية والدوائية والقوها فوق شواطئ وبر غزة هما خير دليل على ما نزعمه، كما يكفينا مشاركة جلالة الملك عبد الله الثاني المعظم وعدد من الأسرة الهاشمية في الاشراف المباشر على الانزال الجوي، وكل ذلك عن ايمان مطلق بعدالة قضية فلسطين وغزة، وها هو الأردن اليوم يسهل من عمليات جمع التبرعات بل ويوجه أئمة المساجد للدعاء لأهل غزة، وهذا أضعف الإيمان، في وقت حُرمت شعوب عربية في كثير من الدول من التعبير عن آرائها أو في بيان تعاطفها.
لا أحد في وطني يصدق الفوضى والتخريب الذي حدث قبل أيام ماضية، فبدل من أن يتفرغ المتظاهر للهتاف لغزة والتنديد بالاحتلال وأدواته وهذا أمر يغيض العدو حقاً، أصبح المتظاهر يمارس القمع بحق رجال الأمن الذين يحرسونه ويتطاول على الممتلكات الخاصة والعامة، ويتعامل مع حكومتنا كأنها دولة احتلال، ويعتبر ابن الاجهزة الاردنية عدو يجب القضاء عليه، هذه للأسف ليست مواطنة صالحة، على الجميع أن يعرف أن مستوى الوعي عند قيادتنا الحكيمة أبعد مما يفكر به البعض، وأن الشعب لن يسمح لأحد بزرع بذور الفوضى والانقسام بين ابناء مجتمعنا الاردني المتماسك، سوف تتم محاسبة وملاحقة كل خارج عن القانون بكل حزم وقوة، سيبقى الشعب الأردني يمثل مشاعر الناس البسطاء في تضامنهم مع قضية فلسطين، ومتمسك بقيادته وحكومته وأرضه، فلا أحد يراهن على صبر الأردنيين، من يريد المزاودة على دور الأردن ليقارن فقط ما قدمه الأردن كدولة وشعب وما قدمه الأخرون، ختاماً، لنتقي الله في وطننا الذي قبلنا أن نتقاسم به لقمة العيش والارض والهواء وأصبحنا جسداً وروحاً واحدة، وما الاستقواء على الدولة الا دعم للمشروع الصهيوني بإضعاف الاردن، فالأردن القوي هو فلسطين وغزة القوية، والعكس صحيح، حمى الله الوطن وقيادته وأهله الشرفاء من كل شر.