«الفتنة أشد من القتل». وقانا الله أجمعين من الفتن كلها ومن دعاتها، وأخطرهم أولئك المفتونون وهما..
أمضيت يومي سفر عبر عدد من الولايات الأمريكية، من العاصمة واشنطن إلى دالاس، وهي من أعرق مدن ولاية تكساس، وأحب الولايات الأمريكية على قلوب معظم العرب الأمريكيين والشرق أوسطيين عموما. ما يجمعنا وأهلها من قدامى المهاجرين من الجيل الثاني فما فوق -حيث لا يعتبر المهاجر الأول وأسرته جيلا أولا بل مؤسس- ما يجمعنا الكثير من الخصال، جميعها تتصل بالفروسية، كالشجاعة والكرم والإخلاص في العمل والصدق في العلاقات الإنسانية ومن سماته العفوية ونقاء السريرة.
أحار أحيانا في فهم غاية دهاقنة هوليوود، من تصوير تكساس على أنها ولاية رعاة بقر، مما أفضى إلى صورة نمطية سلبية يصر البعض على تعميمها، عند التعريض بالسياسات الأمريكية الخارجية خاصة المتعلقة منها بالشؤون العسكرية والأمنية. وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة، لمن أراد أن يعرف، دون انحياز مسبق.. ولعل لتلك المسألة، عودة في مقال آخر يُكرّس لبعض الصور النمطية والأحكام المسبقة المغلوطة والتي لا يلام عليها أحد بقدر ما يلام صنّاع الوعي والثقافة العامة، والإعلاميون والدبلوماسيون، خاصة في ميادين ما يعرف بالدبلوماسية العامة أو أدوات القوة الناعمة «سوفت باور».
في الرحلات والأسفار، وقد كانت من متطلبات العمل الدبلوماسي قبل قيام الدول، حتى في عهد الرسالات السماوية، من الضروري تفويض الجميع مهام تحديد الاتجاه أولا، لحادي الركب أو قائد حافلة المسافرين. تلك مهمة كانت تحددها مواقع النجوم وصارت محسومة بما تقرره البوصلة، ومن ثم اختيار أفضل الطرق سلوكا- لا بالضرورة أقصرها أو أقلها كلفة أو أكثر متعة- حتى يصل الجميع بأمان إلى مقصدهم. الأمان والسلامة، أولى من السرعة وأولى من الراحة، وقطعا لا علاقة لحسن الوصول بالأماني والأحلام، فمن عمل وصل. ومن كلّ أو تقاعس، خاب وضلّ.
وما كان التيه في سيناء أربعين عاما إلا في غياب البوصلة. وما كانت البوصلة يوما مجرد أداة بيد قائد وإنما بيد أتباعه أيضا في مدى تقيّدهم بما يعلنه من اتجاهات على هَدْي من البوصلة. وبين الاتجاهات الأربع، درجات كثيرة، تبدو في الرحلات البعيدة والوعرة والموحشة أعشار الأعشار من الدرجة. أيّ خروج عن المسار قد لا يقاس بميليمترات لضآلته، لكنه سرعان ما يصير أميالا، كل ميل منها مال أكثر وأكثر، عن جادة «الطريق».
من أعظم الابتكارات المعاصرة، ذي العلاقة بالحركة والنقل وحتى العلوم العسكرية «جي بي إس»، وهو اختصار لعبارة «غلوبال بوزيشينينغ سيستيم»، تلك التقنية القادرة -عبر الأقمار الصناعية- على تحديد المواقع على الخارطة دون تأثر بالوقت (ليلا أو نهارا) أو الحالة الجوية (الغيوم والأمطار والضباب). اللافت في تلك الآلية هي القدرة على إعادة التصويب تفاديا للتيه. وما من قائد -قائد طائرة، سيارة أو دراجة، أو حتى راجلا في رياضات تتطلب معرفة الاتجاهات والطرق والمواقع كالسير في الطبيعة أو صيد السمك- إلا وتقيّد بإرشادات تصحيح المسار عند أول هفوة أو غلطة، كونها إن لم تصحح على الفور، ستفضي إلى تيه وليس فقط إلى ارتفاع كلفة الرحلة بجميع عناصرها مركبة وأفرادا.
ما زالت الحياة عموما والسياسة خصوصا، تعلّمنا الدرس تلو الآخر، أن من أخطر الضالين في أي مسيرة كانت هم المفتونون، فهم خطر على أنفسهم وليس الآخرين فحسب. وقد يفتتن الناس بأغلى ما يملكون أو يحبون، وهو أمر لا يبرر أبدا الافتتان. ولا فرق إن كان ذلك الافتنان أو مصدر تلك الفتنة، الأحلام أو الأوهام، فأي بعد عن الواقع، ضياع وتيه.. من حقنا رفض الواقع والسعي إلى تغييره لكن أولا بالاعتراف به كما هو والأخذ بالأسباب والظروف المناسبة لتحقيق التغيير المنشود. بعيدا عن كل ما يحيط بنا من أحداث إقليمية ودولية، لا مناص من مواجهة الحقائق والتعامل مع الواقع كما هو لا كما نتمنى أن يكون. حقيقة لا استثناء لها عبر تاريخ البشرية، المفتونون وهما، هائمون دائما..