يعاني البعض جراء سوء الحظ أو التقدير من ظاهرة اختطاف المنابر. لكن كثيرا من المنابر لم يتعرض للاختطاف بل كانت في الأصل مستباحة هي وميادينها. البعض عن طيب خاطر أو طيب معدن يقدّم منابره كما القهوة للضيف وللكيف وللسيف. بعض الضيوف -وقد تسلل بين صفوفهم الكثير من الأغراب- لا يهزّون الفنجان أبدا، فيُختبر كرم «المعزّب» الحاتميّ وصبره الأيوبيّ على الأذى.
«المونة» أو «المخاجلة» تلعبان دور حصان طروادة ورأس الحربة في تلك الاستباحة والاختطاف. أكثر ما يمون فيه الضيف أو الغريب هو الاتّكاء وأحيانا الاستغلال على نحو مبتذل، أقدس مقدساتنا وهي القضايا الدينية والوطنية والإنسانية.
في الأفراح والأتراح، يفسح الجمع مضيفا ومعزّبا صدر البيت للكبار مقاما، قدرا أو سنّا. لم تعد الحاجة كما كانت لسِدّة أو منصة أو عِلّيّة أو منبرا حتى يكون كلام المتحدث مسموعا وحضوره مشهودا. أتاح الهاتف النقال الجوال منابر حتى لمتحدثي الصفوف الخلفية، بمن فيهم غير المدعوين للحفل أو الجمع -فرحا أو ترحا- أتاح لهم تحويلها إلى منابر جوّالة لها «هتّيفتها» وأحيانا «شبّيحتها» و»بلطجيتها».التنمّر لا يقف عند الحد اللفظي وكثيرا ما يفضي خطاب الكراهية خاصة المغلف بقناع أو لثام ديني أو وطني، إلى ما لا تحمد عقباه على المديين القصير والبعيد.
من تجارب اجتماعية أخذت عمرا ولا زالت في الوطن والمهجر، أكثر الناس سرعة وحرفة في الاختطاف، اختطاف المنابر واستباحة الساحة والمضافة، هم أولئك الذين يتقنون حرفة الخطابة. لكن تراجع الوعي في بعض الساحات، أسقط شروط حفظ النصوص الدينية وإتقان اللغة العربية وفنون الإلقاء والخطابة والتأثير عن إمكانية تحقيق الهدف الكامن غالبا والمعلن نادرا.
اندثرت -ولله الحمد- ظاهرة دخيلة عابرة، شهدها بعض المناسبات الاجتماعية، وهي مشاركة أفراد لا علاقة تجمعهم بأصحاب الفرح أو الترح، لغايات تناول وجبة! الزاد طبعا زاد الله، والناس -بفضل من الله- أجاويد، فتغض الطرف عن الأمر حبا وكرامة -كما يقال- وجبرا للخاطر.. لكن الموقف مغاير لذلك التسامح عندما يكون في الأمر مصلحة كالتحشيد السياسي في مواسم الانتخابات، أو مجرد الاستمتاع بقضاء الوقت، على أمل اقتناص فرصة «التسلّق الاجتماعي» وهي من أكثر الظواهر الممجوجة حتى في أكثر المجتمعات انفتاحا على إلغاء أي فوارق أو تمايز اقتصادي اجتماعي.
قد نكون بحاجة إلى إعادة النظر في تعريف المنابر، وتحديد ساحاتها وأوقاتها ومفرداتها وأدوات التعبير فيها. ثمة حاجة لتفعيل العرف والقانون معا. ولا يخفى علينا أن العرف أقوى من القانون من الناحية العملية في معظم المجتمعات البشرية، شرقا وغربا شمالا وجنوبا. صحيح أننا في نسيجنا الاجتماعي، المبارك في تمسكه بالتراث الروحي والوطني، نحرص على تقديم رجال الدين أو كبار السن أو المتقدمين في المناصب العليا من العاملين أو المتقاعدين، لكن قد يكون من الأجدى ضبط الأمور عبر ما يعرف باسم عريف الحفل الذي إن لزم الأمر يبقي المايكروفون بيده ينقّله بين من يحق لهم الحديث فيما يتناسب مع المقام، فلكل مقام مقال.. ولا ضير وأحيانا لا مندوحة عن اختيار متحدث قادر على اقتصار الكلام على ما هو في صدده من مناسبة تمت دعوته إليها.
لا زلت أذكر بألم تراشق بعض الحضور «المآجرين» في مجلس عزاء قبل نحو عقدين، تراشقهم بالتهم واللغة المتشنجة أثناء حرب بين فصيلين في ساحة ملتهبة في الشرق الأوسط. في ذلك المجلس اضطّر صاحب العزاء لعب دور وسيط السلام حتى يمر، حتى الحزن بسلام..