أ.د رشيد عبّاس - من بين الضربات التي تلقتها اللغة العربية, ضربة اغتيال الفاصلة المنقوطة من صفحات اللغة العربية, والمتتبع لهذه العلامة يكاد لا يلمحها هذه الأيام في فنون الأدب العربي الممتدة عبر صفحات اللغة العربية, مع يقيني أن المؤامرة كانت وما زالت تُحاك لجميع علامات الترقيم المعروفة لدى الجميع, إلا انهم استفردوا بهذه العلامة أولاً, وذلك من اجل ابعاد جميع هذه العلامات لاحقاً عن جمل وفقرات ونصوص لغتنا العربية الجميلة, وبالتالي ضياع فهم معاني ودلالات ومقاصد ما هو مكتوب عند القارئ والمستمع.
نتساءل هنا, ما الذي يغيظ أولئك العابثون في علامات الترقيم؟ أيغيظهم تنظيم النص وتجميله وتحسين عرضه على القارئ, أم يغيظهم تفسير معاني الكلمات وتوضيح المقصود منها, أم يقلقهم تجنب إهدار الوقت في فهم النصوص ومعرفة مواضع السكون والفصل, أولئك العابثون في علامات الترقيم لا يروق لهم جمالية النص وجعل التعبيرات أكثر دقة ودلالة وصدق من خلال هذه العلامات اللطيفة الجميلة.
لقد عرضت الكاتبة الأمريكية (إيميلي تيمبل) في مقالتها "علامات الترقيم التي أحَبها وكَرهها مجموعة من الكتّاب المشهورين", والتي ركزت فيها على الفاصلة المنقوطة, فمن الذين كرهوا الفاصلة المنقوطة كرها مطلقاً كل من: الكاتب دونالد بارثيملي, والكاتب إدوارد آبي, والكاتب كيرت فونيجت, وذلك لإعاقتها وتقييدها للنصوص, في حين أن هناك بعض الكتّاب الذين احبوها مثل: الكاتبة لورين أويلر, والكاتب ابراهام لينكُلن, والكاتبة أروسولا كي لي غوين, والكاتب كليرمسعود, وذلك لبيانها مقاصد النصوص.
نقول للذين يتربصوا بعلامات الترقيم بشكل عام, والفاصلة المنقوطة بشكل خاص, أن علامات الترقيم هي حركات تستعمل في تنظيم الكتابة وفي الفصل بين كلمات أو أجزاء من الجملة توضع في النصوص المكتوبة؛ بهدف تنظيمه وتيسير قراءته وفهمه, فإذا ما رأينا نصّاً خالياً من علامات الترقيم, فإننا سنكون حتماً أمام ضياع المعنى.. فلا يُعرف انتهاء الفقرة من مواضع الاستفهام من التعجب, فجمال اللغة يكمن في علامات الترقيم.
لقد باتت أيادي بعض الكتّاب تمتد نحو علامة التعجب كخطوة ثانية بعد أن اغتال هؤلاء الفاصلة المنقوطة من بين علامات الترقيم الأخرى وتركوا أهمية مكانتها بين كل عبارتين فأكثر بينهما ارتباط في المعنى دون استخدامها, وتركوا أيضاً أهمية مكانتها بين الجمل المعطوفة بعضها على بعض, إذا كان بينهما معنى مشترك, وتناسوا عن قصد مكانتها قبل المفردات المعطوفة التي بينها مقارنة أو مشابهة أو تقسيم أو تعديد وما شابه ذلك, نعم.. لقد أوغر هؤلاء صدورنا منها وسحبوها من بين كل جملتين.. الثانية منها سبباً في الأولى أو العكس, وحرّضوا فينا عدم الوقف المتوسط في الكلام من خلالها, وقللّوا من أهمية وضعها بين الجمل الطويلة والتي تُشكل في مجموعها معنى تام.
اعتقد جازماً أن خلوّ كتابة النصوص من علامات الترقيم سيؤدي حتماً إلى عناء في فهمها, وإلى غموض واضطراب في الكلام, وتداخل الألفاظ والجمل وخلطها, وتغيير في المعنى, وعدم التمييز بين كلام الكاتب والكلام المنقول؛ ومع ذلك نجد اليوم بعض الكتّاب يدعوا إلى التحرر من كتابتها أو عدم مراعاتها وجعل النصوص خاليه من قيودها على حد تعبيرهم, متناسين أن مهارة استخدام علامات الترقيم من أهم المهارات التي ينبغي على كتّاب المحتوى تعلمها واستخدامها وممارساتها.
إلى أولئك الذين تغافلوا عن علامات الترقيم أقول لهم: كيف نعبّر عن مشاعرنا؟ وكيف ننهي خطابنا المكتوب؟ وكيف نقتبس من الآخرين بعض النصوص؟ وكيف نتعجب من موقف ما؟ وكيف لنا أن نتوقف وقفة مؤقتة أو طويلة؟ وكيف نقوم بعملية التخصيص؟ وكيف نربط الجمل الطويلة فيما بينها في النصوص؟
تحية لـ(زينب فوّاز) رحمها الله المفكرة والكاتبة اللبنانية والملقبة بدرة الشرق, على اعتبارها أو من تحدث عن ضرورة وأهمية إدخال علامات الترقيم على اللغة العربية عام 1910م, وتحية إجلال وإكبار للعلامة المصري (أحمد زكي باشا) رحمه الله والملقب بشيخ العروبة, على اعتباره أول من أدخل علامات الترقيم على نصوص الكتابة العربية وطوّرها من اللغات الغربية عام 1912م وأسماها الترقيم, مع معارضة بعض المفكرين والكتّاب العرب له وقتها حفاظاً على قدّسية اللغة وأصولها على حد قولهم.
سنُحيي ذكرى اغتيال الفاصلة المنقوطة من على صفحات اللغة العربية, سنُحيي ذلك من خلال الدعوة إلى إعادة كتابتها في النصوص, مؤكدين هنا أن الفاصلة لم ولن تنوب عن الفاصلة المنقوطة في النصوص, وسنُجددُ ولاءنا وانتماءنا لجميع علامات الترقيم دون التقليل من اهمية أي منها.
ما أجمل التعجب حين نلمحها في قصيدة (لن أبكي) لفدوى طوقان, وما أروع الاستفهام حين يفاجئُنا في رواية (قصة مدينتين) للكاتب تشارلز ديكنز, وما أجرأ النقطة حين توقفنا في مقالة (الغرفة المظلمة) لآركي نارايان, وما أكرم الفاصلة المنقوطة حين تربط جملتين تفرقا.