في موروثنا وتراثنا الروحي والحضاري معاني نبيلة تصل إلى مراتب القداسة تتعلق بالحمى. ولكل حِماه. للوطن والبلاد، للديرة والعشيرة، لكل حمى وحرمات تصان ولا يقربها من يريد العودة من حيث أتى سالما.. فدون الحرمات الأرواح، يبذل للذود عنها الغالي والنفيس.
ويندرج تحت قباب تلك الحرمات وبين ثنايا محاربها وفنائها، أماكن حرام تثبّت قبل دخولها عبارات من طراز «ممنوع الاقتراب» أو «للمخولين فقط». ولاحترام هذا الفضاء الذي لا يكون مسيّجا في جميع الحالات لاعتبارات شتى، يحرص الوالدان ومن يقومون على رعاية أمور فلذات الأكباد على تربيتهم وتنشئتهم وفق ثقافة تحترم الحدود وتحسن تقدير الأبعاد. يعلم الأب «أسده» صغيرا ويربيه على أنه ليس من الحكمة ولا من الشجاعة، اكتشاف نار المدفئة باللمس، وإلا كان -ثمن الجهل والفضول والتهور- الاحتراق والتشويه وعاهة مستدامة لا قدّر الله.
وكلما «لف ودار» بعض المتحذلقين، من محترفي «النطنطة» أو «القنبزة»، من مكان إلى مكان، أو من حمى إلى حمى، أو حولها أو ما بينها، كلما زادوا تيها وضياعا حتى يقال فيهم «آخر النطنطة على الحبال كسر رقبة». اللعب على الحبال ليس من الحكمة -ولا يفعلها إلا بهلوان في سيرك-ولا من القوة في شيء، سواء أكان ذلك ناتجا عن سياسة أم سلوك. طبعا لا ينفي ذلك أهمية مراوغة الخصم أو مناورة التحديات بشرية كانت أم طبيعية أم مادية. من الحكمة ضرب الأضداد ببعضها بعضا، وتحريك التناقضات كما في البلياردو والشطرنج، لكن بعد أن تتشكل لدى اللاعب المحترف الحصيلة الكافية من الخبرات التراكمية والمعارف النوعية القادرة على تحويل ذلك الحوم، إلى حومات صقور و»شومات» فرسان.
تلك عمودية أولا ومن ثم أفقية، على أن تحوم ثلاثمئة وستين درجة.. عام ألفين وثمانية، حقق فيلم بعنوان «فينتاج بوينت» نجاحا كبيرا ورواجا لدى المهتمين بقطاعي الأمن والصحافة على وجه الخصوص. أبدع مخرج الفيلم «بييت ترافيس» بتجسيد رواية الغموض والإثارة للكاتب «باري إل ليفي»، حول كشف ملابسات عملية إرهابية، كانت أهدافها أبعد من مجرد جريمة اغتيال لوقوعها في مكان عام مكتظ بالناس، من بينهم الأطفال والنساء. عرض الفيلم الأحداث بروايات صحيحة دقيقة لكن من زاوية واحدة وهي «فينتيج بوينت» خاصة بالرائي أو الراوي، فكثير من الرواة رواياتهم تنحصر بمدى قدرتهم على الرؤية الدقيقة ومدى صحة ودقة ما يرون، وإلا لما فهمنا الفارق بين واحة ماء وسراب عطشان أفضى به سوء تقدير الموقف إلى الهذيان بحث نفسه والآخرين، على أن سيروا فالماء على مرمى حجر!
في الأفلام أو في حياتنا الخاصة والعامة لا تكتمل الصورة إلا باكتمال الدائرة ولا يتحقق ذلك إلا بأن تتم عملية صنع القرار واتخاذه على متن حوّامة العقل الواعي الفردي والجمعي التراكمي. كلما ارتفعت الحوامة اتضح المشهد كاملا، حينها يقوم الطيار المغوار بصولات وجولات حول كل حمى، حتى يدرك ويكشف كل الخوافي، فإن رمى، رمى على هدى وبصيرة..