كانت نكبة بمواصفات خاصة جداً.. ونحن لا نريد إلا وطناً عادياً جداً..
في الخامس من أغسطس سنة 1882 رست في ميناء يافا السفينة أصلان تحمل أول المهاجرين من اليهود من حركة ( بيلو ) الصهيونية إلى فلسطين، كانوا ثلاثة عشر رجلا وامرأة واحدة وهم الذين أسسوا أول مستعمرة زراعية عند عيون قارة جنوبي يافا، وعرفت باسم (ريشون لوسيون ) أي الأول في صهيون، وقام نفر من يهود القدس بتأسيس أول جماعة يهودية زراعية صارت تعرف فيما بعد ( بتاح تكفا ) أي عتبة الأمل، جاءوا يحملون ثلاثة أساطير: الأولى أن فلسطين أرض بلا شعب، الثانية أن الله وعدهم بها، والثالثة أنها أرض يهودية، الرجال الثلاثة عشر الأوائل المسالمون، صاروا أربعة ملايين مقاتل تحت السلاح.
هكذا بدأت الحكاية، وكانت النكبة، النكبة هي تكريس ( إسرائيل ) مقابل شطب ( فلسطين ) ومن أجل ترسيخ الأساطير، كان لا بد من نسف الحقائق والوقائع، فجاءت المسألة اليهودية على حساب القضية الفلسطينية، أورشليم مقابل القدس، الكيبوتس مقابل المخيم، المستوطنون مقابل اللاجئين، المغتصبون مقابل المشردين، التطهير مقابل المذابح إعلان الاستقلال مقابل النكبة، اليهود الصابرا مقابل أجيال المخيمات، العودة اليهودية مقابل الشتات الفلسطيني..
إذا كان مفهوم الاستيطان اليهودي هو شعار الصهيونية الأول، فهذا استتبع أن يكون شعارها الثاني هو تهجير الفلسطينيين من وطنهم، ولكي تنجح النظرية الصهيونية في تكريس صحة مقولة ( إسرائيل زانجويل ) بأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، فإذا وجد يهودي، ينبغي أن يقابله اختفاء فلسطيني على الأقل، لقد كان الاعتقاد الذي أطلقه ( بن غوريون ) بأن اللاجئين سيذوبون ويتلاشون داخل المجتمعات والصحارى العربية، وبمرور الزمن لن يعود هناك وجود لما يسمى قضية اللاجئين..
ربما لم يسجّل التاريخ البشري نكبةً بمواصفاتٍ خاصةٍ جداً كما سجّل نكبة فلسطين، فالتاريخ مليء بوقائع وأخبار عن احتلال وعن حروب ومجازر ومذابح واعتداءات، لكنه عند النكبة الفلسطينية فقد أفرد لها خصوصية لم تحظى بها أية قضية تحرير سواها، الخاصية الأولى تتمثل في أن المغتصب لم يأت من منطقة واحدة، بل جاء من مختلف دول العالم بالاستناد للمفهوم التوراتي والمفهوم الصهيوني القومي الذي لا يعترف بأية هوية أو جنسية لليهودي سوى الهوية الإسرائيلية المزعومة، والخاصية الثانية هي إنكار وجود شعب في أرض فلسطين حيث كان الشعار الصهيوني « أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» والخاصية الثالثة إنكار قضية اللاجئين، وبالتالي إنكار حق العودة وحق التعويض..
ولو أردنا تعداد الأساطير التوراتية والصهيونية فلن نستطيع حصرها، فهناك تاريخ وتربية مثقلة بالأكاذيب والأضاليل.
هناك إدعاء بوجود اضطهاد وظلم تاريخي، هناك إدعاء بوجود عداء للسامية والتي يقصرونها على أنفسهم دون الآخرين ممن يشاركونهم السامية، هناك إدعاء بأنهم في حالة دفاع دائم عن وجودهم، فكل حروبهم التي كانوا يخرجون منها بالغنيمة وبزيادة نهب الأراضي وتشريد المواطنين، كانوا يطلقون عليها حروب دفاعية، لقد سرقوا الأرض والموارد والثروات، سرقوا التراث والثقافة، سرقوا الهوية والشعب، سرقوا التاريخ والجغرافيا، ثم سرقوا الإعلام لنشر وتلفيق ما يحلو لهم حتى أن محمد الدرّة أصبح مذنباً لأنه تواجد في منطقة تبادل النيران، وحتى تلك العجوز العملاقة التي تشبثت بساق زيتونةٍ أرادوا خلعها، تم تصويرها على أن الجنود الصهاينة يعملون على مساعدتها..
يتوقف اليهود في مختلف مناطق العالم عن العمل لمدة دقيقة استذكاراً للهولوكوست حيث يتم استجرار هذه المناسبة من أجل مواصلة تحميل العالم أوزار وذنوب وتعويضات بلغت مئات المليارات، أفلا يجدر بنا وبعد ستين عاماً على النكبة أن نتوقف جميعنا دقيقة واحدة ليس عن العمل المتوقف أصلاً منذ نكبات، وإنما عن الأمل بحلٍّ منتظر من الآخرين..
حقاً كانت نكبة بمواصفات خاصة جداً: « منذ مائة عام كان ثمة اعتراف بحق الفلسطينيين في فلسطين بأسرها، ومنذ سبعين عاما عرض عليهم نصفها، واليوم وقد أصبحوا على استعداد لقبول أقل من ربع بلادهم، فإن قضيتهم ولا غرو مفحمة « إننا وكي لا ننسى، ويجب أن لا ننسى، هذا المخيم الذي بدأ طارئا ثم مؤقتا، والآن بات قديما، لن نقبل بأي حال أن يصبح دائما وثابتا..» وإن عودة الحق أولى من حق العودة «.