أيّ شر أوغَلَ في البدن والروح من الاحتلال؟ فما بالك إن كان استيطانيا وعنصريا. كُتب التاريخ وشهادات أصحاب البلاد الشرعيين أولى من أي باحث في رواية ما جرى في بريتوريا (جنوب إفريقيا) و روديسيا (زامبيا وزمبابوي وملاوي) ، لكن تجربة من ورثوا روديسيا، تغني عن الكثير من البحوث في ملفات تتعلق ببناء الأمم.
كما لدى الأفراد والجماعات، قد تخرج المحن أفضل ما فينا، فيما تخرج من البعض أسوء ما فيه. لطالما جاهرت في التقليل من شأن المتعذرين بالظروف الصعبة أو القاهرة، بما فيها المآسي الطبيعية أو البشرية في التأثير على حياة الناس، على قراراتها وخياراتها ومنهجها وسلوكها. ترى مثلا أخوين توأمين تأخذهما الدنيا بعد المعاناة ذاتها والبيئة الأسرية والاجتماعية ذاتها إلى حال متناقض، وأحيانا في الحالين، الشخصي والمهني.
المسألة أولا وآخرا، اختيار وقرار. رب العالمين من رحمته بنا جميعا ومن فضله وعدله أن وضعنا في مشوارنا على هذه الأرض دائما على مفترقات طرق. الناظر بإنصاف إلى حياته وحياة الآخرين -إن علم بخفاياها- يدرك أن البدائل دائما متوفرة، على الأقل بديل واحد عن أي خيار نحن في صدده. حتى المعارف التي تقبل إلينا أو نقبل عليها، هي سلسلة من قرارات إيجاب وقبول، اللهم إلا في مراحل لافتة في الحياة، قد تتجلى إرادته سبحانه بجلب أو إبعاد أناس عن طريقنا لخير ما نعلمه بعد حين، أو قد يخفى على بعضنا حتى الرحيل.
بعض المستوطنين اختاروا الرحيل طلبا للنجاة من أفعال انتقامية على ما اقترفوه بحق أصحاب الأرض الأصليين، وكلهم أفارقة من ذوي البشرة السوداء والسمراء حيث نادرا ما ترى اللون الحنطي المنحدر من اختلاط الأنساب مع العرب أو شبه القارة الهندية. فيما اختار بعض المستوطنين البيض الواثقين ببيض صنائعهم وعدم وجود دماء على أيديهم ممن أحسنوا العيش المشترك كبشر في فلاحة الأرض وتربية المواشي، اختاروا البقاء.
أحسنت زامبيا وملاوي ربما أكثر من زمبابوي في بناء أمم على أسس المواطنة، بعيدا عن عقد الماضي وآلامه. رغم عدالة قضية ضحايا العنصرية والاستغلال، إلا أن القرار الوطني الأكبر كان في فتح صفحة جديدة لا بل وكتابة فصل جديد في كتاب تاريخ من عاشوا على تلك الأرض، بصرف النظر عن أوضاعهم القانونية والسياسية. المواطنة القائمة على الانتماء الحقيقي والرغبة الصادقة في تشييد صروح البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في البلاد، البلاد الجديدة.
بمجرد دخولك مطار روبرت موغابي في هراري وكينيث كاوندا في لوساكا، ترى ملامح الخيار الذي اختاره كل من البلدين الجارين المتقاسمين أجمل شلالات الأرض، شلالات فيكتوريا. كلا الرئيسين الراحلين ومن حولهما الزمبابويون والزامبيون اختاروا طريقهم للعبور الآمن من الماضي بآلامه إلى المستقل بأحلامه.
في لحظة تاريخية ما، من واجب القادة ومن حق الشعوب، حسن التقدير وحسن الاختيار وحسن تصريف الأمور. المسيرة الوطنية لأي بلد في الدنيا هي حاصل مجموع ذلك شئنا أم أبينا. وكما في كل الدول، تتضح نوعية المنتج من خلال ما تم استثماره في الإنسان، تعليما وتثقيفا ورعاية صحية واجتماعية. نحمد الله أن «الإنسان أغلى ما نملك» ما زالت مضرب مثل على مستوى المنطقة في النموذج الأردني نحو مئوية ثانية أحلى وأقوى وأبقى..