في المعاني السامية لا تكفي البحور مدادا لإيفائها قدرها. من تلك المعاني الاستقلال على أي مستوى كان، فكيف إن كان استقلال وطن وأمة. ما كان المعيار الوطني يوما محصورا بين حدود سياسية للأردن إمارة ومن ثم مملكة، بل كان قوميا إنسانيا، عملا بشعارات رفعتها الثورة العربية الكبرى في الحرية والوحدة والحياة الفضلى.
البدء كانت الحرية، الانعتاق من ربقة العثمانيين القدامى والاستقلال من سطوة ونفوذ قدامى المستعمرين الأوروبيين على امتداد المشرق والوطن العربي. المعركة-الإنجاز في عيده الثامن والسبعين ما زالت مستمرة، هي رسالة كفاح ونضال وجهاد لمستويات أعلى من الحياة الفضلى للإنسان الأغلى، حيث صدق العمل القول بأن «الإنسان أغلى ما نملك» كما قالها الحسين الباني طيب الله ثراه وأعلى صرحها عبدالله الثاني رعاه الله حاملا اسم ورؤى الجد المؤسس الذي نستذكر إطلالته وحضوره وصوته الوقور من ذاكرتنا الوطنية وأرشيفها العابق الزكي الثري، في مناسباتنا الوطنية والقومية، ومنها ما نحتفل به هذه الأيام ونحتفي بهم كل عام وكل يوم، بناة الوطن المفدى.
للاستقلال بُناته وحُماته أيضا. الفداء لا يقتصر على ما يقوم به الحُماة من منتسبي قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية الأمينة القديرة المهابة خارجيا والمقدّرة المحبوبة داخليا. كما أن بعض العطاء لا يخلو من الفداء لكل من صدق في انتمائه من بناة الاستقلال. هذا ليس بحدث منفصل ولا بذكرى مضت، إنما هو الوعد والعهد أن يبقى كل فعل وقول وإشارة تصدر من أي منا منضبطة بتلك البوصلة الذاتية التي لا تقبل بأقل من السعي إلى تحقيق الأفضل في كل مناحي الحياة، بحيث تزداد الدولة ومن قبلها المجتمع قوة ومنعة، وبالتالي استقلالا عن أي قوة كانت -مادية أم معنوية- غير أردنية خالصة.
الشعر والنثر وأهله على الراس والعين، وللقصيد وقته في السلم وفي الحرب، للقريب وللبعيد، لضيف العز و «الضيف الهامل» -بعيدا عن سمع ونظر الغانمين- لكن الموقف والسلوك والأفعال المتسقة بنسق وطني حكيم هي وحدها التي تطعم خبزا وتشدّ عَصَبا وتجبر عظما وتكسوه لحما.. الكلام «ما عليه جمرك» كما يقال، لكن الموقف الوطني والإنساني والحضاري قد يكون مكلفا للغاية، إلى حد خسارة «أرزاق» أو الحياة نفسها.
في تسعينيات القرن الماضي -وخلال جولة تفقدية غير معلنة لنائب رئيس الوزراء وزير الإعلام حينها الراحل معن أبو نوار- لفت انتباهه رحمة الله عليه درجة التكييف العالية والنوعية الجيدة لمكيفات غرفة الأخبار المفتوحة في التلفزيون الأردني. قال حينها ما مر مرور الكرام، لكن أعادته الأيام وحفرته في أذهان من تشرفوا بالحضور عندما قال فيما قال في حب الأردن والهواشم بما معناه إننا نحمد الله على كل ما نحن فيه، انظروا موقعنا على الساحة الإعلامية في الوطن العربي ومكانة رسالتنا في العالم، حتى هذا «التكييف» ثمة من صنعه ويحرسه الآن -في عز الحر- في إشارة إلى الجند البواسل الذين يقومون على حراسة المبنى كرمز سيادة ومنبر للوطن كان أوحدا، لا لحكومة ولا لحزب ولا لجماعة بل للأردن والمليك المفدى. تلك الروحية والذهنية التي صنعت الاستقلال وما زالت تُعلي قواعده وتصون أركانه يوما بعد يوم، بهمة سيدنا ومن حوله شعبه الأصيل الوفيّ..