لا يوجد حريات سياسية وإعلامية مطلقة في هذا الكوكب، على الرغم من أن سقوف الحريات تتفاوت بين بلد وآخر، لكن الأزمات تكشف سلوكا ثانيا من حيث التعامل مع هذه الحريات.
خذوا مثلا الاعتقالات في الولايات المتحدة ودول أوروبية للمتضامنين مع فلسطين خلال أحداث غزة الحالية، فالتحريض على هؤلاء وصل أعلى درجاته، من جانب قوى سياسية واقتصادية، ونفذت أجهزة الأمن آلاف الاعتقالات، تحت عناوين مختلفة من تهديد السلم الاجتماعي، مرورا بمعاداة السامية وصولا إلى تعطيل الحياة الجامعية، والذرائع هنا متوفرة في كل دول العالم.
الأمر ذاته انطبق بشكل أو آخر على أي أكاديمي أو سياسي أو إعلامي أميركي أو غربي تضامن مع فلسطين، حيث تم الهجوم على هؤلاء وطرد بعضهم من مواقعهم، والتنكيل بهم بوسائل مختلفة، علنا، لإخافة غيرهم من ذات الطبقات الذين فضلوا الغنائم على المعارك.
هذا يعني أن لحظة الصدام بين المصلحة السياسية لأي دولة أو نظام أو مجموعة سياسية أو حزب أو اتجاه، وتعريفات هذه المصلحة الدقيقة، وبين سلوك السياسيين أو الإعلاميين أو النخب الشعبية، تؤدي في حالات كثيرة إلى إنتاج موقف مضاد للحريات كليا، وهو أمر ينطبق حتى على سلوك المعارضات إذا انتقدها أحد، وعلى سلوك من نفترضهم يدافعون عن الحريات، إذا قام أحد بالتشكيك بهم أو مسّ مقاماتهم، فالمأساة هنا مشتركة بين الجميع.
الأمر رأيناه أيضا في إسرائيل، فقد قتلت مئات المراسلين الصحفيين الفلسطينيين، لمجرد أنهم ينقلون الحقيقة، والعالم الغربي يتفرج على قتل الإعلاميين، مع بضعة بيانات إدانة هنا أو هناك، لكن إسرائيل لم تتوقف، وتم إلحاق هذا بمنع بث شبكات تلفزة ومداهمة مكاتبها، ومنع بث وكالات أنباء دولية، وفي حالات اعتقال مراسلين وصحفيين وتوقيفهم، بسبب نقل آلاف الصور والفيديوهات، لأن الاحتلال يخوض حرب السرديات أيضا، كون تل أبيب تريد أن لا تهددها سردية ثانية، لا سردية الفلسطينيين، ولا سردية المتضامنين معهم، والإعلام أخطر وسيلة لنشر السرديات، وتعزيزها بالأدلة إلى درجة اأ ما تبثه وسائل الإعلام أحيانا يتم استعماله كأدلة جنائية لإدانة القادة والدول والأنظمة والجيوش، وهذا السلوك الإسرائيلي يأتي مبررا تحت غطاء خوض الحرب، حيث لا حريات للطرف الآخر، بل إن الحريات في إسرائيل ذاتها يتم خفضها والتحكم بها، من خلال الرقابة العسكرية، التي تعمل بقوة دون الالتفات إلى قصة ديمقراطية إسرائيل، وسمعتها أمام مجتمع الاحتلال من جهة، والمجتمع الدولي.
هذه نماذج برزت في الحالات الاستثنائية، أي حالات الحروب والأزمات والفوضى الداخلية في دول تتغنى بوجودها السياسي، بكونها ديمقراطية، بل إن أميركا تصف نفسها بأهم ديمقراطية في العالم، فيما إسرائيل تصف كينونتها بكونها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وسط دول وجزر وأنظمة معتمة أصلا، ولا تؤمن بفتح الفم للمواطن إلا لدى طبيب الأسنان.
ما يراد قوله هنا بالمقابل إن منطقة الشرق الأوسط، اختصرت على نفسها كل هذه المسارات، وحددت سقوف التعبيرات الإعلامية والسياسية، وفي نماذج معينة لا توجد سقوف أصلا، ونشهد اليوم تفاهما ضمنيا بين الدول الديمقراطية، وغير الديمقراطية، من حيث خفض الحريات حال نشوب أزمات محددة، حيث لم تعد عواصم الشرق الأوسط تهتم أصلا بتقييمات منظمات حقوق الإنسان، ولا تصنيفات الحريات، خصوصا، حين يكون السلوك الرسمي المحلي متعلقا بأزمة ذات ظلال إقليمية أو دولية، وبحيث يأخذ الكل راحته في فرض التقييدات المتعددة.
لكن وسط كل هذه المشاهد يبرز الإعلام البديل، عنصرا حساسا برغم كل محاولات تقييده، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، مثلما يعيد الغاضبون في كل مكان إنتاج أدوارهم السياسية لمواصلة التعبير عن مواقفهم، بوسائل تتكيف مع القيود المفروضة في سياق الالتفاف عليها.