من جمال لغتنا، اقتران الفلاحة بالزراعة دونا عن غيرها من المهن. وكأن الناس قد نسوا ما سمعوا خمس مرات يوميا -لسنين مديدة إن شاء الله- بأن حيّ على الفلاح. هذا النداء -الذي أراح به الصحابي بلال الحبشي السامعين وما زال إلى يومنا هذا وحتى تقوم الساعة- هذا النداء يجعل من الفلاح كل شيء في حياتنا ما دام قائما على الإيمان بالله أولا وبالنفس ومن ثم الآخر ثانيا، بمعنى الاعتداد بالنفس وحسن إعدادها قبل ذلك باتضاع ومحبة وحكمة وأناة ومثابرة. أما «الآخر» هنا -فكل وأصله الطيّب- حيث الآخرون ليسوا فقط الأسرة ولا العشيرة وحدها بل الديرة كلها، الوطن كله، بجلالة قدره ومهابة مكانته.
حظيت الأمس بأمسية واشنطونية بصحبة جمع مبارك من الأهل والأصدقاء بإحدى الدوائر الانتخابية في ضواحي العاصمة، ذات القوة الانتخابية التي لا يستهان بها من أصوات الجاليتين العربية والمسلمة والشرق أوسطية. قد تصير فيرفاكس أو سبرينغفيلد من المقاطعات المتأرجحة التي يحسب الجميع حسابها، كتلك التي قلبت ولاية فيرجينيا من الأزرق الديموقراطي إلى الأحمر الجمهوري قبل عامين في انتخابات حاكم الولاية غلين يونغكين (الغين كما الجيم المصرية لا تلفظ في اسم عائلته). يونكين انتصر لأب في مدرسة ثانوية بمقاطعة لاودين دفاعا عن ابنته التي تعرضت لجريمة بشعة لطالب ادعى أنه أنثى!
بعيدا عن السياسة، كان الحفل الذي حضره جمهوريون وديموقراطيون وبعض المستقلين حفل تكريم لخريجين جامعيين أحسنا اختيار تخصصهما الدراسي بما يتطلبه سوق العمل في الوطن والمهجر. تلك من بركات بر الوالدين عندما يحسن الأبناء الإنصات لنصائح الأب والأم المسلحين بالخبرة والمعرفة التراكمية التي يضعها الوالدان في تصرف الجيل الجديد المؤتمن على من يقال فيهم «أعز من الولد، ولد الولد»، الأحفاد.
لن تقوم قائمة لاقتصاد ولن تفلح خطط تنموية -لا خمسية ولا عشرية- ما لم تبدأ من الفرد من الأسرة، من الوالدين لا من الحكومة. كان معزّبنا -كما هي عوايدنا- آخر من اقترب منه الزاد وهو يجول على ضيوفه مهللا مرحبا بأن «أفلحوا»، «أفلحوا بالزاد يا الأجاويد». فما كان من ضيوفه إلا وأن أجابوه بأن الشباب قد نجحوا وأفلحوا أيضا بعون الله، عندما أحسنوا اختيار التخصص المناسب. ومن زملائهم من قام بتعديل اختصاصه أو تغييره أثناء الدراسة، فحصل معظمهم على وظائف أثناء دراستهم الجامعية بعد أن تلقفتهم الشركات، وجميعها أمريكية عالمية الانتشار لدى البعض منها مكاتب إقليمية في دول عربية خليجية.
غابت كل الهويات الفرعية والثقافات الخاصة بها أو الجامعة لها عن معايير النجاح والتوظيف والتشغيل، فالذهنية التي يؤمن بها السوق هي عيّن وافصل «هاير آند فاير»، طبعا دون شخصنة أو مزاجية أو انتقامية. لا «كرت غوار» ولا هذا «من جماعتنا»، لا مكان لكل ذلك عندما يكون الهدف هو الفلاح وليس النجاح فقط، الحكاية ليست معدلات وأرقاما بل كفاءات وخبرات وأخلاقيات مهنية.
لكن الأمانة تقتضي الإشارة إلى أن بعضا من قصص النجاح تلك لم تتحقق سوى بتغيير الاسم كاملا أو الأول على الأقل بما يزيل بعض التمييز السلبي أو الإيجابي. العجب العجاب أن التمييز ليس فقط في بلاد العم سام في بعض الحالات، وإنما أيضا في «بلاد العرب أوطاني» حيث ما زال «الفرنجي برنجي» وإن كان «ابن عرب» من الأقحاح و»قرابة» من «عظام الرقبة»!
قد يكون المشوار طويلا -هنا وهناك- لكنا بعون الله «جيناكم» فأفلحوا..