إن عدت بها لعهد التأسيس -القرن الرابع قبل الميلاد أو خمسة آلاف عام- فإن جرش اليوم و مهرجانها، هي حصيلة معرفية حضارية تراكمية منذ زمن الاسكندر المقدوني وحتى يومنا هذا الذي يستطيع فيه مراهق في أبعد نقطة عنا، استحضار اسكندر الكبير عبر هولوغرام واستنطاق مؤيدي ومعارضي حروبه عبر الذكاء الاصطناعي والعمل على تحويله من العالم الافتراضي إلى ما يتم إسقاطه واقعا على الحياة اليومية، دونما اعتبار لمتغيرات المكان أو الزمان أو مقتضيات الأحوال.
بصرف النظر عن القرار الذي اتخذته أو ستتخذه الحكومة بشأن مهرجان جرش، فإن السجال حوله في منصات التناحر الاجتماعي أبعد ما يكون عن العصف الفكري أو الحوار الوطني العقلاني لدى البعض، بصرف النظر عن الداعين إلى تأجيله أو التمسك بدوريته، دون أن ننسى محاربة بعض القوى له مذ كان فكرة، وقبل أن يلهم نجاحه مهرجانات وطنية عديدة في مقدمتها مهرجان الفحيص وأخرى في دول شقيقة وصديقة، نفرح دائما لفرحها ونحتفي على الدوام بنجاحها.
القصة ليس قصة جرش ولا جراسا ولا جراشو (الشجر الكثيف)، القصة قصة البشر والشجر والحجر الذي يريد الحياة ويصنع الفرح منذ المدن العشر جنوب الإمبراطورية الرومانية، الديكابوليس الأردني. كل مدينة منها كانت دولة قائمة بذاتها توافقت على حلف حضاري سبق زمانه.
جراشو روحهاواسمها ما زال متجذرا في ذلك الشجر الكثيف ومنه الزيتون الموغل بقدمه، العتيق العريق بأيدي من زرعوا فحصدوا. زرعوا محبة وخيرا فما كان الحصاد إلا كما في بذوره من جينات وراثية، وكما في زُرّاعه أيضا من سر الأجداد.
للمختلفين على دواعي الإبقاء أو الإرجاء وافر المحبة والاحترام، لكن ليس من حق أي من الطرفين الإلغاء. شطب الآخر عبر شطب رأيه والتضييق عليه، بلغ للأسف في كثير من القضايا البالغة الخصوصية الشخصية والوطنية أيضا في كثير من الأحيان، بلغ حد التخوين والتكفير لدى البعض، والتسفيه والتندر والتذمر والتنمر، لدى البعض الآخر.
الحكاية ليست مهرجان، ولا سلسلة من المتاجر، ولا علامات تجارية، ولا شركة توصيل منتجاتها، بل أصل الحكايات كلها العقلية ومن ثم الثقافة.
ولأن جذر المشكلة واحد في كثير مما يبدأ بافتراض ويصير سردية ومن ثم زوبعة (أزمة)، ثمة حاجة إلى تتبع الأعراض إلى الأمراض الحقيقية. العلاج أولى خطواته الاعتراف بالمرض، لا الاكتفاء برصد الأعراض وتسكينها، ومن ثم المكاشفة ومواجهة المريض لذلك المرض حيث لا تجدي مشاعر لا الطبيب ولا أهل المريض في حل المشكلة.
مشكلة المشاكل وجوهرها مازالت تلك العقلية التي تصدر أحكامها استنادا إلى مغالطات أومقاربات مغلوطة أو مجتزأة وانتقائية على نحو مشوّه.من قال أن الفرح كهدف وكحق وكثقافة قضية تنفي الحزن أو التعاطف أو المساندة؟ أوليس في كثير من مظاهر الفرح والثقافة ما يحقق تلك الأهداف؟
عندما يصير الفرح ثقافة وصناعة واستثمارا واقتصادا يكون الأمر سياديا، له أجهزته المختصة القادرة على حسن تقدير الأمور، فتوصي بهذا أو ذاك. البت في الأمر قرار مركب له أبعاد لا يجوز أن يختطفه أحد، ولا أن يزاود على المختلفين أو المخالفين، أدعياء امتلاك الحقيقة واحتكار الحق والصواب.
نعلم في حياتنا الخاصة والمهنية أن الحياة تستمر لدى الجميع، رغم قساوة الظروف وجسامة التحديات. رغم الموت والخوف والحزن والقلق يقهر الناجون العدو والظروف بإرادة الحياة وقوة المحبة فترتفع أعداد المواليد. هي سنة الحياة كما أرادها الخالق سبحانه. الحياة لا تتوقف وكذلك العمل. هكذا تعمل أقسام الطوارئ وغرف العمليات الخاصة بخدمات الأمن وإنفاذ القانون والدفاع المدني، وهكذا تعمل أيضا البنوك على اختلاف توجهاتها وفوائدها ربحية كانت أم مرابحة، وهكذا تعمل نشرات الأخبار والتغطية العاجلة والموسعة والخاصة في جميع القنوات على اختلاف تمويلها وتوجهاتها ولغاتها. ثمة أمور مهنية فنية موضوعية لا يجوز أن يتحكم بها المزاج العام ولا حتى الرأي العام في بعض الحالات.
الغريب أن تأتي بعض الدعوات في تناقض صريح تفضحه سلوكيات مطلقيها أو أخبار أسفارهم. ينتفخون غضبا ويتورمون حنقا على قشة هنا ولا يرون الخشبة في عيونهم، هنا وهناك. مهرجانات الفرح والرقص والغناء والرياضة والألعاب والتريندات لا ضير فيها إن كانت في ديارهم أو ديار رعاتهم، أما فرحنا واقتصادنا ورسالتنا للعالم، فتلك مسألة فيها نظر. ويا ليته صح النظر! هكذا تدق لنا جرش الجرس..