تخدع الصورة كثيرا، وإذا كانت الصورة وثيقة ودليلا في حالات كثيرة، فإن الرقم أهم بكثير من الصورة، لكن أغلب شعوب العالم تتعلق بتأثيرات الصورة، وتدفع الرقم خلف الذاكرة.
كل صور الكوارث في قطاع غزة، أثارت مشاعرنا، وغضبنا، وتسببت بندوب في وجدان كل إنسان، لكن الكارثة الأكبر تكمن في الأرقام، أرقام الشهداء والجرحى والمتضررين وكل ما يتعلق بقطاع غزة خلال الحرب، أو في حال توقفت الحرب، والأرقام تقرأ لك المستقبل، وليس مجرد اللحظة الانفعالية، لأن الانفعال هنا، لا يصنع مستقبلا صلبا، ولا حاضرا مزدهرا.
بين يدي عشرات التقارير الدولية حول قطاع غزة واحتياجاته، وإذا كان الأردن هنا استضاف مؤتمر الاستجابة الإنسانية الطارئة لصالح قطاع غزة الذي تقدر احتياجاته الإغاثية الغذائية والعلاجية بمليارات الدولارات، في وقت تتراجع فيه المساعدات أصلا، فإن الأخطر يتعلق بكل بنية القطاع الداخلية، وما تعرض له من تأثيرات مدمرة حيث تشير الأمم المتحدة إلى أن قطاع غزة بحاجة إلى 80 سنة لإعادة الإعمار، وتخيلوا ماذا يعني هذا الرقم من دلالات؟.
في تقرير للأمم المتحدة صدر مطلع مايو، وقبل أن تتواصل المذبحة الحالية، تقول الأمم المتحدة إن قطاع غزة بحاجة إلى 40 مليار دولار لإعادة الإعمار، التي سوف تحتاج إلى 80 سنة حتى تكتمل، أي أن أغلب سكان القطاع لن يكونوا على قيد الحياة حين يسترد القطاع طبيعته المعتادة، بما يعنيه ذلك من أجيال نازفة وغاضبة بلا حياة أو بنى تحتية أو حياتية.
في التقرير نقرأ أن القطاع يحتاج قرابة 80 عاما لاستعادة جميع الوحدات السكنية المدمرة بالكامل في حال كانت وتيرة إعادة الإعمار بالإيقاع نفسه الذي حدث في الحروب السابقة، كما أن إجمالي الركام الذي تراكم حتى الآن في غزة يصل إلى 37 مليون طن، وهذا الرقم هائل ويتصاعد يوميا وآخر البيانات تشير إلى أنه يكاد يبلغ الـ40 مليون طن، وهذه أرقام مطلع شهر أيار، أي أننا بتاريخ اليوم في شهر حزيران نكون أمام مشهد أكثر خطورة، كما يشير التقرير إلى أنه إذا استمرت الحرب 9 أشهر- وقد دخلنا الشهر التاسع- سيزداد الفقر بين سكان غزة من 38.8 % نهاية عام 2023 إلى 60.7 % ليلقي بقطاع كبير من أبناء الطبقة الوسطى تحت خط الفقر، إضافة إلى هدم 70 بالمائة من بيوت القطاع كليا أو جزئيا، والكل يعرف أنه لم يتبق هنا مدارس ولا مستشفيات ولا جامعات ولا مؤسسات لإدامة الحياة في القطاع.
لماذا نعود إلى تقرير صادر قبل أسابيع، عن مؤسسة دولية، والإجابة سهلة، لأن المؤسسات الدولية تخفض الأرقام ولا تريد أي مبالغات، خصوصا، أن بين أيدينا أرقاما ثانية تتحدث عن الحاجة لتسعين مليار دولار لإعادة الإعمار، كما أن العودة إلى تقرير صادر قبل أسابيع، يراد منه إذكاء الخيال السياسي لدى كثيرين حول الواقع اليوم، وهذا يعني أن كل الأرقام السيئة تضاعفت جدا، وأن المشهد الإنساني بات فوق الوصف، حين يتم شطب مدن بأكملها.
نحن اليوم أمام أكثر من عقدة، عقدة الإغاثة الإنسانية الطارئة كما في جهد الأردن المبذول والمقدر لإدامة حياة الغزيين والتخفيف عنهم في وجه كل العراقيل الإسرائيلية، وأمام عقدة إعادة الإعمار، وهي عقد أشد من كل العقد، لأن المبالغ المطلوبة فلكية، ولن يكون متاحا تأمينها، وسوف تضع دول كثيرة شروطها على دفع المال لإعادة الإعمار، وهي شروط قد تكون في بعضها جزءا من تفاصيل اليوم التالي للحرب، ومن يدير القطاع وسط هذه المأساة، ومن سيتولى عمليات إعادة الإعمار، وسيشرف على إنفاق المال، وتوزيعه على الأولويات.
الأرقام تحكي لنا أمرا أسوأ من الصور، وأن ما بعد الحرب أسوأ من الحرب، بما يجعل ملف إعادة الإعمار أساسيا، وبحاجة لمبادرة عربية ودولية، ستواجه عراقيل متعددة من حيث القدرة على الفصل بين المسار السياسي للإعمار وتوظيفه سياسيا، وكونه مجرد عملية إنسانية مجردة من الدوافع، بما يجعلنا حقا أمام استعصاءات لا حل لها، وفقا لكل المؤشرات الحالية.