بعد أن جرى وصفنا بأننا "شعب لا يضحك للرغيف السخن"، فاجأني زملاء عرب كنت برفقتهم الأسبوع الماضي ضمن وفد صحافي بدبي بأننا "شعب لا يعجبه العجب"، وهي عبارة أطلقها إعلامي لبناني ووافقه عليها آخر سوري وثالث مصري ورابع تونسي وخامس كويتي، حتى إنني، في غمرة دفاعي لرد "التهمة" وتفنيدها رحت أضحك، لأن عدم العجب أهون و"أخف بَلا" من نعتنا بالعبوس والتجهم!
تذكرتُ تعليقات الزملاء الإعلاميين العرب، وتعليقاتنا على أنفسنا وتندرنا على أحوالنا، وأنا أراقب ردود الفعل الشعبية والإعلامية والنقابية على الأوضاع الحكومية، وبخاصة ما يتصل بالشق الاقتصادي وعجز الموازنة.
وزاد من عجبي أنني زرتُ قبل يومين مادبا لإلقاء محاضرة عن الإعلام والديمقراطية، فإذا بأحد المواطنين ويدعى "أبو حشيش" يطالبني بأن أكشف "وين راحت المصاري، وكيف وصل عجز الموازنة إلى بليون و200 مليون دينار". وكرر مخاطبا إياي بشدة: "بدي أعرف وين راحت هاي المصاري".
وأمثال "أبو حشيش" تجدهم في كل مكان من الأردن، ولا يخلو أي تجمع من سؤال: "وين راحت المصاري"، لكن اللافت والمستغرب أن هذا السؤال يجري على ألسنة الكتاب والمعلقين والإعلاميين ومن هم محسوبون على النخبة.
أنا شخصيا لا أدري على وجه اليقين "وين راحت المصاري"، ولربما أيضا رئيس الوزراء سمير الرفاعي لا يدري ذلك على نحو مؤكد وموثق.
ولئن توافرت هذه المعرفة، على نحو حاسم لا ريب فيه، فإنها لن تغني عن أهمية أن نبحث عن أساليب مبدعة، حكومية وأهلية، للخروج من عنق الزجاجة. الأهم الآن هو الاعتراف بالمشكلة، وهذا ما فعلته الحكومة التي عزمت على غرس السكين في الجرح كي يشفى، لأن بقاء الجرح الاقتصادي مكشوفا سيعرضه للتقيح وللالتهابات، وستجعله مرتعا خصبا للفيروسات التي لا تحمد عقبى مخاطرها.
الرجل، أعني رئيس الحكومة، اعترف بأن الأوضاع صعبة، وأننا مقبلون على سنة يتعين أن يتحمل الجميع ظروفها غير المريحة التي ستتأذى بسببها قطاعات واسعة، وستفرض ضرائب، ولربما يتضرر الفقراء، وتمس نار الأزمة جيوبهم التي تئن من الطفر المزمن.
بيد أن هذا لن يكون حالا دائما، فالحكومة تعمل على محاور متعددة، وتحتاج إلى إسناد شعبي وأهلي واسع، ولا تملك عصا سحرية تحول البلد إلى بحيرات من العسل والذهب، لكنها تملك الإرادة والأمل، وهما في نظري، مفتاح أي أزمة، وباب الولوج لاختراق أي مستحيل.
ولأن "الخراب" الذي لحق بإدارة الشأن الحكومي على مدى سنوات سابقة وأدى إلى هذا العجز الكبير في الموازنة، يحتاج إلى وقت طويل لإصلاحه عبر خطط بعيدة الأجل، فإن من الواجب الوطني أن نتفهم مبررات خطوات قادمة كشفت ملامحها الحكومة في خطتها التنفيذية، وحددت تصورات شفافة عاينت الخلل ووضعت حلولا زمنية مقترحة لمعالجته.
بيد أن سؤال "وين راحت المصاري" يبقى ملحّا، ومن الضروري الإجابة عنه في المستقبل، لأننا الآن في مواجهة الحقيقة العارية التي تقول إننا أدرنا ملفات العمل في السنوات السابقة، كما يقول الخبراء، من دون مرصد للإنذار المبكر لمخاطر بعض القرارات، وقامت حكومات بترحيل أزماتها إلى من يأتي بعدها، ولم نكن نمتلك فلسفة ضريبية واضحة، ودمرنا على نحو منهجي الطبقة الوسطى وأصبناها بالإعياء، وارتكبنا أخطاء قاتلة تشبه من يسير بخطى واثقة إلى الانتحار.
الرفاعي ورث هذا الواقع، فماذا يفعل؟
هل يبقى يسأل نفسه سؤال "أبو حشيش"، أم يتقدم خطوة نحو الأمام، وينحت في صخر الواقع الصلب عن حلول خلاقة وجريئة عبر تخطيط طويل المدى؟
الرئيس تنكب الدرب الأصعب، لأنه لا يريد لأبنائه وأبنائنا أن يسألوا في المستقبل: "وين راحت المصاري؟".
m.barhouma@alghad.jo
موسى برهومة