لم تعد الحياة السياسية في الأردن، كما كانت في أوقات سابقة، وما يمكن قوله بكل صراحة ان الحياة السياسية هنا باتت باهتة وغير منتجة إلى حد كبير لاعتبارات مختلفة.
في مرحلة التسعينيات في الأردن كانت لدينا صحافة مؤثرة جدا، وذات سقوف مرتفعة ومسؤولة في الوقت ذاته، ولدينا أحزاب ذات مذاق سياسي، ونواب تهابهم الحكومات، ومن الوان واتجاهات مختلفة، ولدينا نقابات فاعلة، يحسب لها الجميع حسابا، ومؤسسات مجتمع مدني منطقية ومعقولة تعمل في مجالات شتى، ولا يمكن الغمز من قناتها، أو من مرجعياتها، وكل هذه التنويعات في المشهد، لم تهدد الأردن على المستوى الداخلي، بل عززت استقراره.
تغير المشهد اليوم كليا، إذ أن كل "المؤسسات الوسيطة" ان جاز التعبير بين الدولة والناس، تراجع دورها، وأغلب الأجسام السياسية التمثيلية باتت ضعيفة، في ظل ندرة النخب الفاعلة، وفي ظل إعادة هندسة الحياة السياسية، بوسائل مختلفة، أدت إلى هذه التراجعات، وفي ظل انفضاض كثيرين عن فكرة الترشح والعمل في مؤسسات مختلفة، بسبب شيوع اليأس.
مناسبة هذا الكلام ترتبط بالتوقعات حول البرلمان المقبل، ومن المؤكد هنا أن لا مفاجآت من نوع ما ستحدث، فهذا هو "البيدر وهذا هو قمحه"، بعد أن تم استنبات نخب "معدلة جينياً"، وتغيير قواعد إنتاج الممثلين ليس على مستوى البرلمان وحسب، بل على مستوى كل المؤسسات التي سبق ذكرها، عدا بعضها، في سياقات تخفض التأثير، ربما من باب الغاء المنافسة مع مؤسسات القرار-وهي منافسة غير موجودة بالمناسبة- أو خفض المناددة، أو التخلص من الصداع، بسبب كثرة الأزمات التي لا تحتمل أي مناوشات داخلية.
تسمع عن أسماء مهمة تنسحب من سباق الترشح من النيابة، عبدالكريم الدغمي، أيمن المجالي، خليل عطية، ولكل واحد تجربته وتأثيره، وقد تتفق معهم وقد تختلف، وقد يمثلك بعضهم، وقد لا يمثلك، لكنهم بالتأكيد اسماء وازنة، وبعضها يعد بيوت خبرة في الحياة السياسية والبرلمانية، وبعيدا عن الخوض في التوقعات حول أسباب عدم ترشح هذا أو ذاك، لان لكل اسم ظروفه الخاصة، فإننا على الأغلب لسنا أمام عملية استبدال للنخب بنخب جديدة أكثر فاعلية، بقدر كوننا نخسر هذه الأسماء، وربما غيرها، في سياقات إنتاج مشهد جديد، بمواصفات يمكن توقعها بشكل مسبق، مع الإشارة هنا إلى أن شؤون الأردن واستدامته لا تتوقف نهاية المطاف عند شخص، أو اسم، لأن الأردن هو الباقي، والأسماء متغيرة بطبيعة الحال، كما شهدنا طوال المراحل الماضية على مستوى حياتنا.
ما يراد قوله هنا انه ليس من المصلحة إضعاف كل هذه المؤسسات، ويجب أن تبقى قوية بوجود حريات تعبير إعلامية مصانة ومهنية وأخلاقية ووطنية، وان تعود عمان الرسمية لاحتمال الصداع، لان كل هذه المؤسسات داعمة للدولة، أصلا، وليست مضادة لها أساسا، مثلما أن قوة هذه المؤسسات يجعلها الموكلة شعبيا للتعبير عن القلق بطرق راشدة، أو عن أي مواقف اعتراضية من خلال القنوات المتاحة دستوريا وقانونيا، بدلا من ترك المواقف الاعتراضية ليتم التعبير عنها بشكل فوضوي في الشارع، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، مثلا، خصوصا، ان هذه المؤسسات تمثل أيضا تنوعاً طبيعيا كما هو الأردن، وتعد جدار حماية لا يجعل طرفي المعادلة، أي الدولة والناس وجها لوجه، لاي سبب كان، بما يعزز الثقة.
لا تجد اليوم اسماء مؤثرة ولا موثوقة مثل سنين سابقة، على المستوى السياسي، وقد لا تجدها أيضا على المستوى الاجتماعي، وهذا الاضعاف شمل حتى المخاتير ونوابهم، وكأننا صرنا نستبدل القوي المؤثر والحليف في حالات الخطر، بالمطيع الضعيف، الذي يفضل النجاة بنفسه فقط، ولا ينفعنا لا في السلم ولا في الحرب، ولا بينهما ايضا.
يستحق الأردن، مؤسسات تمثيلية فاعلة تليق بشعبه، وبقدرتهم الخلاقة على البقاء، والتطور، وبما يتطابق مع ذهنيتنا ورؤيتنا لأحوال بلادنا، وما نتطلع اليه جميعا بشأن واقعنا ومستقبلنا.