في تقديرنا، أن النهوض بالمجتمعات يعتمد أساسًا على وعي ذاتي ، وتوافق على أفكار تخدم مصالح مجتمعية مشتركة ، وهذا الأمر لا يتعلق بوجود حكومة ديمقراطية أو منتخبة، ولا بالولاء للعشيرة أو الطائفة، وليس في حضور الحرية أو غيابها، ولا في الثروات الوطنية أو المساعدات الخارجية ، سيما وأن الموضوع لا يرتبط بالسياسة ومشكلاتها، ولا بأوضاع المجتمع الدولي أو الإقليم أو دول الجوار ، و إنما يتعلق الأمر فقط "بالإرادة المجتمعية الواعية " والعزيمة والإصرار ... !!
والحقيقة الواضحة هنا ، كما الشمس في رابعة النهار ، هي أن مصلحة الجميع تكمن في استقرار وأمان القرية، أو المحافظة، أو الدولة التي يعيشون فيها ، وهذا هو النموذج المتقدم الذي تجسده قرية البسايسة في مصر ، و السؤال هنا هو: كيف يمكن الوصول إلى هذا النموذج؟! و مما لا شك فيه أن الإجابة تكمن في الإدارة الذاتية غير الرسمية لأهل القرية، الذين استثمروا في تعليم أبنائهم حتى أصبحوا مدرسين في أعرق الجامعات، وفي تخصصات مثل الفيزياء وغيرها من علوم الطاقة ، ويبدو أن نقطة التحول كانت في عام 1973م ، عندما صعد الدكتور صلاح عرفة، أستاذ الفيزياء بالجامعة الأمريكية، منبر مسجد قرية البسايسة، القرية التي وُلد فيها وعاش سنواته الأولى فيها، وأعلن عن رغبته في إقامة مشروع تنموي كنوع من رد الجميل لقريته ، وبالفعل بدأ عرفة بالتشاور مع أهل القرية حول سبل التنمية والاستفادة من الطبيعة ، و كانت أول مشكلة تواجه القرية هي توفير الكهرباء، لذا قرروا إنشاء أول وحدة لتوليد الطاقة الشمسية، لتصبح قرية البسايسة أول قرية تعتمد بالكامل على الطاقة الشمسية دون أي تدخل من السلطات الرسمية أو الشركات العامة أو الخاصة، ولتنفيذ هذا المشروع على أكمل وجه ، قام عرفة بزيارة القرية كل يوم جمعة، واجتمع مع الأهالي على حصير بلاستيكي ، وكان عدد السكان آنذاك 650 فردًا موزعين على 65 منزلًا ، و بدأ بتطبيق فكرة المشاركة والحوار، حيث كانت الأولويات هي المياه، الكهرباء، والصرف الصحي ، وجدير بالذكر أن الفكرة جاءت من الأهالي أنفسهم باستخدام الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء ، وفي البداية، لم يكن السكان يفهمون الفكرة بشكل كامل، لذلك قدم عرفة نماذج صغيرة لشرحها ، ورغم عدم وعيهم الكامل بأهمية استخدام الطاقة الشمسية، شاركوا في المشروع بهدف توفير فاتورة الكهرباء ، وقد أوضح عرفة في ذلك الحين ، أن محطة الطاقة الشمسية في قرية البسايسة تعتمد على خلايا تمتص الطاقة الشمسية وتحولها إلى طاقة كهربائية، وتُخزن في بطاريات للاستخدام ليلاً ، و بمرور الوقت، تم تسخين المياه بأشعة الشمس والاستغناء عن الغاز والكهرباء في سخانات المياه ، كما تم استخدام طاقة الشمس المتجددة في تسخين وطهي الطعام ، وبالطبع لتنفيذ المشروع، كان لا بد من توفير التمويل اللازم، فتم إنشاء جمعية تنموية لإدارة التنمية والطاقة داخل القرية ، وشاركت المنازل في تكاليف المشروع، ومن لم يستطع دفع المبلغ المطلوب، دفع اشتراكًا رمزيًا شهريًا وعمل في المشروع مجانًا ، و مع مرور السنوات، أوجدت الأجيال الجديدة من أبناء القرية أفكارًا جديدة للتنمية باستخدام الطاقة المتجددة ، و نقلوا مع الدكتور عرفة فكرة القرية إلى البسايسة الجديدة في صحراء سيناء، وهي قرية تعتمد على الزراعة وتقنيات متطورة مثل إعادة تدوير المخلفات الزراعية واستخدام الطاقة الشمسية ، و
من رحم قرية البسايسة القديمة، خرج مشروع البسايسة الجديدة في سيناء ومشروع جنة الوادي في الوادي الجديد ،و هذه المشاريع قضت على الأمية والبطالة، ورفعت المستوى الاقتصادي للمرأة المعيلة من خلال إنشاء ورش خياطة وتريكو ونجارة وحدادة ، و بهذا النموذج الملهم، تبرز قرية البسايسة كمثال حي للإرادة المجتمعية الواعية التي تتجاوز الحكومات وعموم الشعارات ... !! خادم الإنسانية .
مؤسس هيئة الدعوة الإنسانية والأمن الإنساني على المستوى العالمي .