مرات قليلة جداً أو حتى نادرة تلك التي رأيت فيها دموع أبي رحمه الله تذرف من عينيه، فقد كان ذلك من الخطوط الحمراء بشخصيته العصامية التي لا تنحني ولا تقبل الظهور بمظهر الضعف حتى آخر لحظات حياته، وأذكر هنا في إحدى المرات عندما كنت في بدايات شبابي وكان الوالد يتابع أخبار فلسطين كعادته، والتي كانت مليئة كالمعتاد بالمجازر وصور أشلاء الضحايا التي تملأ الطرقات في واحدة من المجازر التي لم تتوقف بحق شعب فلسطين منذ احتلال أرضها في العام 1948، ويومها لمحت الوالد وهو يحاول إخفاء دموعه التي كانت تذرف بحرقة حزناً وألماً على ما يجري هناك بحق أهلنا في فلسطين، هذه الدموع التي فهمتها أكثر بعدما كبرت وبحثت في قضية فلسطين وتعمقت في فهمها، والتي من المؤكد أن هناك الملايين في العالم العربي والإسلامي وحتى في كل أنحاء العالم من الأحرار ممن لا يستطيعون السيطرة على دموعهم اليوم وهم يرون ويسمعون الفظائع التي تقع في أرض فلسطين وخصوصاً في غزة منذ ما يقارب العام على مرأى ومسمع العالم بأسره، وهنا يقفز السؤال ترى ماذا عن الأثر الذي يقع في نفوس آلالاف الأطفال في غزة وفلسطين وهم يكبرون وفي عيونهم ليس فقط دموع آبائهم، بل ودمائهم وأشلائهم محفورة في مقل عيونهم لتصبح أكبر عنوان لمأساة حياتهم!
لن نقول ماذا يتوقع الاحتلال من هؤلاء الأطفال، فهو الذي وصل إلى حالة جنون من يخرب بيته بيده، وما إجرام الاحتلال وتماديه بذلك أكثر وأكثر إلا أكبر دليل على أنه بدأ بأكل نفسه وتدميرها من الداخل، ولكن السؤال هنا، ترى ماذا يتوقع العالم ومنظمات حقوق الطفل حول العالم من أطفال تم اغتيال أي شيء يتعلق بطفولتهم، ليكبر أحدهم وقد لازمته مشاهد القتل والدمار في منامه ويقظته، ترى هل نتوقع من هؤلاء الأطفال أن يكبروا كأي طفل ينتظر دمية أو حلوى تدخل الفرح إلى قلبه، أو حتى قصة يقرأها قبل النوم!
سيكتشف الاحتلال وكل داعميه بأنهم سيقعون في شر أعمالهم اليوم أو غداً، فكل هذه الجرائم والفظائع التي يتمادون بها أكثر وأكثر ويتحدون بها كل أعراف الإنسانية يوماً بعد يوم ستكون أكبر وبال سيقع على رؤوسهم عاجلاً أم آجلاً، فهؤلاء الأطفال لن يكونوا سوى قنابل موقوتة ستنفجر في وجه الاحتلال مهما طال الزمن، ولن يعرف هؤلاء سوى معنى واحد في حياتهم، الانتقام والمقاومة.
الانتقام من المحتل ومقاومته بكل طريقة ممكنة، كغريزة طبيعية في كل إنسان رأى وهو طفل صغير أشلاء والده ووالدته وكل أهله تتقطع أمامه ودمائهم تتناثر أمام عينيه، وهو يقف عاجزاً عن فعل شيء لأجل من يحب وما يحب، الانتقام من كل إجرام وقع أمام أعينهم لكسر إرادة الحياة في نفوسهم، وهو ما يفسر إصرار الاحتلال على تصفية أكبر عدد من أطفال فلسطين خوفاً ورعباً من تلك الحقيقة التي يراها ماثلة أمام عينيه، خصوصاً وأنه يتذكر جيداً ذلك الفرعون الذي عمل ليل نهار على ذبح كل مولود يولد في دولته خوفاً من النبوأة التي أخبرته بالطفل الذي سيخرج له ويكون سبباً في هلاكه، ليخرج له ذلك الطفل في النهاية من جدران بيته ويكون بالفعل سبباً في هلاكه والقضاء على دولته وإلى الأبد!
رحم الله شهداء فلسطين الأبرار وملأ قلب ذويهم بالصبر والسلوان والإيمان واليقين والسكينة، ونصر شعب البطولة والتضحية والإباء الشعب الصامد الصابر المقاوم في غزة وفي كل فلسطين وكتب لهم أجمل العوض الذي ينسيهم كل ألم أو مرارة مرت بهم، ذلك الشعب المؤمن بأن عظمة النصر ستكون على قدر عظمة التضحيات مهما طال الزمان بإذن الله.