في الذكرى الثانية لحصار بيروت في ثمانينيات العقد الماضي، أجرى يومها أحد أساتذة العلوم السياسية المخضرمين في الجامعة الأردنية وهو من المتقاعدين العسكريين، الأستاذ غازي الربابعة، أجرى استفتاء حيا مباشرا لم يصوره أحد -كونه جرى داخل حرم الجامعة قبل زمن الفضائيات عابرة الحدود والهواتف ذات التطبيقات الذكية- أجراه بين طلبة أحد مدرجات الجامعة الكبيرة التي تتسع لمئات الطلبة. الإجابة كانت برفع الأيدي: من يؤيد ومن يعارض قرار الراحل ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية حينذاك زعيم كبرى الفصائل- حركة فتح، الانسحاب من بيروت والذي أدى كما لا ينسى البعض إلى انشقاق في صفوف الحركة واتساع هوة الخلاف الفلسطيني والشقاق الفصائلي المستمر في الاتساع عموديا وأفقيا والتشظي حتى يومنا هذا للأسف، ورغم اقتراب مأساة حرب السابع من أكتوبر من عامها الثاني.
سأحجم عن نتيجة التصويت إلى حين، لكن ما ذكرني به تلك المسيرة وذلك الهتاف العجيب الغريب الذي سمعته على منصات التناحر الاجتماعي. مجموعة ترفع أعلاما تردد هتافات لا علاقة لها لا بالجامعة ولا باسمها ولا بهويتها ولا بالتجربة التي يحرص الجميع على نجاحها ونضجها كجزء لا يتجزأ من التحديث السياسي وقبل أقل من شهرين على انتخابات قد تكون الأهم في مسيرتنا الوطنية الأردنية.
بأي حق هذا الاختطاف لساعة الجامعة ومن حوّلها من رمز أيقوني لمواعيد المحاضرات إلى ساعة ساحة أيا كانت هايد بارك في لندن أو مفترق الطرق من حول الجامع الحسيني وسط البلد أو مسجد الكالوتي في الرابية؟ بأي حق تستباح حرمات الأحياء السكنية وطرقات أم الجامعات الأردنية النظيفة الخضراء التي كان الراحل الكبير عبد السلام المجالي كتب الله مقامه في عليين يلتقط بيده النظيفة ما غفل عن التقاطه مجموعة طلبة في «المِلْكْ بار» وهو في طريقه من مكتبه بدار رئاسة الجامعة إلى مطعمها ماشيا وحده في وداعة وهيبة عز نظيرها.
الحياة السياسية مرحبا وبها وكذلك الحزبية، هكذا أراد أولو الأمر. لكنها ليست كذلك، فالهتاف لفصيل مسلح ولقائد عسكري بعينه وكأنه «الممثل الشرعي والوحيد» للفلسطينيين، أو قيادة منتخبة في الأردن أو أي ساحة عربية، أمر غير مقبول ويثير مخاوف كثيرين ويعزز شكوك أطراف أكثر بأن ما يجري بلغ من التمادي الذي يستدعي تدخلا ما، من الأولى أن يكون إداريا أكاديميا.
تسلل بعض الممارسات إلى المؤسسة التربوية والتعليمية بلغ كما رأينا قبل أشهر مدارس الصفوف الابتدائية. وهذا الاستهداف المريب لم يتم رصده في الأردن وحده بل دول عديدة معروفة بالاعتدال والأمن والأمان كدولة الكويت وسلطنة عمان الشقيقتين.
سكت البعض وتراخى عن تسلل أولئك لدور العبادة ومن قبل سكتوا على تسللهم إلى المدارس والجامعات، وبين هذا وذاك النقابات وكل ذلك مجتمعا أكثر خطورة من الوصول إلى البرلمان، ولا ضير في ذلك إن كانت تذكرة الديموقراطية ذهابا وإيابا لا باتجاه واحد كما جرى في الجزائر ومصر وغزة. قدّرنا الله على إغاثة الأشقاء البعيد والقريب، فلا أقل من استفتاء الأردنيين في حقيقة ما تبدأ به الأمور لا ما تنتهي إليه فقط.
وقد كانت نتيجة الاستفتاء يومها، الأغلبية مع قرار الانسحاب، الأمر الذي دفع قلة من الطلبة وقد كنت منهم إلى التساؤل ولماذا أصلا كان الحصار؟ المشكلة كانت وستبقى عدم اختطاف الدول والمدن والساحات باسم القضية، أي قضية كانت. فتلك كلمة حق يراد بها باطل وقد أثبتت الأيام ذلك.
تلك مسيرات وهتافات أقل ما يقال فيها إن ضررها أكبر من نفعها، وشخصيا لا أرى فيها نفعا أبدا. الجامعات للدراسة والتميز والإبداع لا هي بمؤسسة دينية ولا سياسية، ولا حزبية -كما ثبت من التجارب- وقطعا لا ينبغي التساهل مع أي محاولة لجعلها مكانا للفصائلية الخارجية، نعم خارجية كونها غير أردنية، ولا حرج في قول ذلك بالعربي الفصيح..