في عام 2019، انشغلت في إعداد دراسة تحليلية معمقة بعنوان «دور شبكات التواصل الاجتماعي في صناعة الرأي العام» لصالح جهة حكومية. ولسوء الحظ، لم تر هذه الدراسة النور لأنها كانت جاهزة للنشر في منتصف مارس 2020 وهو نفس الشهر الذي تفشى فيه وباء كورونا وأعلنت حالة الطوارئ في البلاد.
كانت فرضية الدراسة- وأتحمل مسؤوليتها كوني ترأست الفريق البحثي – أن النخب الأردنية الأكاديمية والسياسية والثقافية تعاني من ضعف في المشاركة الفاعلة في صناعة الرأي العام، بمعنى أنهم ليسوا «قادة رأي عام».
وقد حددت الدراسة مجموعة كبيرة من العوامل الذاتية لهذا الضعف، كان من أهمها انتقائية النخب الأردنية في اختيار القضايا التي تدافع عنها، وضعف مهاراتها اللازمة لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي سواء من الناحية التقنية أو اللغوية. أما العوامل الموضوعية فكان من أهمها تلك المتعلقة بالمناخ العام؛ كالتضييق على حرية الرأي والتعبير من خلال قانون الجرائم الإلكترونية وقد أثبتت نتائج الدراسة صحة هذه الفرضية.
هذا الضعف وتشتت الأداء للنخب الأردنية على شبكات التواصل الاجتماعي أدى لتفشي ظاهرة «المؤثرين» أو ما يمكن تسميتهم اليوم بالـ»منفرين» وهم مجموعة أجادت استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في مرحلة مبكرة، لا علاقة لخلفياتهم المهنية أو العلمية بالشأن العام، تواجدوا في المكان والزمان المناسبين- خاصة في فترة الربيع العربي- وتمكنوا من السيطرة على المشهد الإلكتروني وحازوا رعاية الدولة في فترات كثيرة.
الغياب التام للأنماط القيادية المنتجة للمعرفة والتي تشترك في إعادة صياغة مفاهيم العدالة الاجتماعية وتداول السلطة وإدارة الدولة، وعدم قدرتها على صياغة الرأي العام مقابل تواجد مجموعات كبيرة ممن تعتمد على الخطاب العاطفي وإثارة النعرات أدى إلى الغياب التام للثقة بين مكونات المجتمع من جهة والمجتمع والحكومات والمؤسسات من جهة أخرى.
وعلى عكس ما هو مأمول، تزايدت ظاهرة الشيطنة للمسؤولين وأصحاب رؤوس الأموال بالمطلق ونجحت شبكات التواصل الاجتماعي في تحويل المسؤولين لمحل ازدراء اجتماعي، وتوسع انتشار الخطاب العنصري المتطرف، الذي سيؤدي حتما إلى تكسّر بنى المجتمع وتغير منظومته الأخلاقية والقيمية والتي تشكل أهم عامل تماسك ووحدة، والتي نحن في أمسّ الحاجة لها اليوم.
هذا ليس حديثا منفصلا عن الأحداث التي تجري في المنطقة اليوم، بل في صلبها، فيكفي متابعة ما تشهده بريطانيا مؤخرًا من أعمال شغب عنيفة نتيجة خطاب تحريضي وعنصري من اليمين المتطرف على شبكات التواصل الاجتماعي، مستهدفًا الأقليات المهاجرة. هذه الأحداث هي الأسوأ منذ 13 عامًا، وقد جاءت نتيجة تحريض من قبل ناشط يميني مشهور باسم «تومي روبنسون»، الذي يقود خطابًا عنصريًا موجهًا ضد الأقليات والمهاجرين، داعيًا إلى «استعادة البلاد».
نحن اليوم بحاجة ماسة لإعادة تعريف مفهوم «مؤثر شبكات التواصل الاجتماعي» بحيث يتم التمييز بينه وبين «قائد الرأي» اعتماداً على معايير غير تقليدية في التصنيف، أهمها القدرة على إثراء الشبكة بالإنتاج الثقافي والمعرفي ونشر الوعي السياسي والحقوقي، بمعزل عن المعايير «التجارية» المتبّعة في تقييم مؤثري الشبكات؛ كعدد متابعيهم وحجم تداول منشوراتهم ومشاركتها ونطاق انتشاره، وعلى الدولة التنبه لضرورة هذا الفصل المعياري قبل فوات الأوان.
«منفرو» شبكات التواصل الاجتماعي لمع نجمهم في فترة الربيع العربي حيث احتاجتهم الأنظمة- وهذا حقها- للدفاع عن مواقفها في فترة غاية في الخطورة، لكنهم أصبحوا لاحقا عبئا عليها لأنهم ببساطة مجرد أبواق لا تستند إلى بُعد معرفي ولا حتى أخلاقي، وستجد الدولة بعد مدة أن ضررهم يفوق فائدتهم لأنهم بالمحصلة يحتكمون إلى «ترند» وليس إلى ثوابت.