تغرق في شوارع عمان، والسيارات فوق بعضها بعضا، ونسبة الجديد فيها مرتفعة، وتسأل نفسك لماذا يتذمر الناس من وضعهم المالي، إذا كانت السيارات الجديدة في كل مكان؟.
في عمان وربما في شقيقاتها أيضاً، يتطاول قائد السيارة الجديدة على من أمامه، فيبرقه بالأضواء العالية، وبوق السيارة حتى يفتح المسرب، وهو يقول لك دون شفاهة إن سيارتك أقدم، وعليك أن تعرف حجمك المتواضع، وتبتعد عن سيل السيارات الحديثة واللامعة أيضا، حتى برغم كونها مرهونة، وصاحبها مثقل بدينها، والتزاماتها، وأقساطها، لكن الوجاهة أهم هنا.
لكنك تؤمن بالأرقام، وليس باستعراضات البشر المريضة، وتكتشف أن البنوك المرخصة في الأردن، منحت خلال العام الماضي 718 مليون دينار، على شكل قروض سيارات، مقارنة بـ 616 مليون دينار خلال العام 2022، بنسبة ارتفاع بلغت 16.5 %، وهذه الأرقام واردة في تقرير الأداء المقارن للبنوك العاملة في الأردن خلال عامي 2022 و2023.
هذا يعني أن تسونامي السيارات في الأردن سببه المصارف، وحاجة الناس للسيارات أيضا، في ظل عدم وجود شبكات مواصلات حديثة ومناسبة، كما أن طبيعة التسهيلات تجعل شراء السيارة أمرا ممكنا، دون عراقيل كثيرة، فالمهم أن ترهن السيارة نهاية المطاف للدائن.
في نظر المصرفيين تقديم هذه التسهيلات دليل على قوة المصارف وتوفر السيولة لديها، وفي نظر الاقتصاديين هذا دليل عافية؛ لأن الأردني يعمل وقادر على سداد القسط بشكل شهري.
بالنسبة لي، وأنا من أصحاب السيارات القديمة وأشعر بالكيد والحسد، أعتقد أن ظاهرة الاستدانة لشراء سيارة تعبر عن خلل اجتماعي واقتصادي، فالأردني هو الوحيد في العالم الذي يدفع ثمن سيارته 4 مرات، الأولى ثمنها الأصلي قبل الجمارك والرسوم، والثانية قيمة الجمارك والرسوم التي تعادل ثمنها الأصلي، والثالثة قيمة الأقساط والفوائد المصرفية، وغرامات تأخير السداد، والرابعة قيمة ضرائب البنزين التي تبلغ ضعف قيمة البنزين الأصلية، والترخيص والتأمين والتصليح والمخالفات، فيما سيارات الكهرباء تنتظرها مفاجآت غير سعيدة تجعل التوفير في وقودها سراباً، خصوصا، لكون الخزينة خسرت من كل قصة الكهرباء مقارنة بالبنزين وضرائبه.
جميل جدا، أن تشتري سيارة جديدة، وتعمل في حياتك بثلث أجرك المستحق أصلا، وتدفع ثمن السيارة أربعة أضعاف سعرها الأساس، وكأن الشقاء هنا، بات أمرا عاديا في حياتنا.
القصة هنا ليست انتقاد الأفراد، إذ إن هذه هي احتياجاتهم، ورغباتهم، التي لا يمكن الوقوف في وجهها، لكننا نؤشر على نقاط متصلة، أبرزها مدى احتمال الشوارع لكل هذه الأزمات المتفاقمة يوما بعد يوم، وثانيها مدى احتمال الأفراد لكل هذه الأعباء الاقتصادية، وثالثها حجم التلوث في بلد صغير تنفث فيه مليونا سيارة كل هذه الغازات، ورابعها حجم قيمة الديون التي يتورط بها الأردنيون بشكل مذهل من ديون السيارة إلى الموبايل مرورا بالشقة أو ديون الزواج، وغير ذلك، بما يجعلنا من أكثر شعوب المنطقة استدانة ربما، وخامسها السؤال حول التخطيط بشأن المستقبل، وسادسها السؤال حول الاضطرار للتقسيط والاستدانة كدليل على عدم توفر السيولة، وسابعها ما يتعلق بازدياد احتياجات المجتمع، وأضرار البنى التحتية.
لا توجد دراسة محددة حول حجم ديون الأفراد، ربما فقط ديون المصارف محددة وواضحة، لكنْ هناك أرقام مذهلة حول ديون الأفراد بين بعضهم البعض، أي بين الأقارب والأصدقاء، وديون الأفراد لدى المؤسسات التجارية الصغيرة التي قد تبيعك أي سلعة مقابل ضمانة شخصية أو ضمانة قانونية، وأعتقد أن ما من أردني إلا وفي ظهره طعنة دين، لهذا أو ذاك، لأن الدخول لا تكفي، والالتزامات تنهك الناس، وهي التزامات تتضاعف يوما بعد يوم ولا تتراجع.
ربما الحل الوحيد عدم الاعتراض، والالتحاق بقوافل أصحاب السيارات المدينة، وشراء سيارة، والتطاول بالنظرة والعنق والرأس على من سيارته أقدم، حيث أن عدوى "التشاوف" تنتقل من واحد إلى واحد، في هذه البلاد الغالية على قلوبنا حماها الله، مما نعرف ولا نعرف.
ولو دمجنا قيمة فواتير الاتصالات، وكلف التدخين، لاكتشفنا أين تضيع المليارات؟