أثارت المجموعة العربية لدى الأمم المتحدة، التي تضم 22 دولة وتترأسها موريتانيا في الرابع من اكتوبر، جدلاً واسعًا حين أصدرت بيانًا يرفض بشكل قاطع إعلان وزير خارجية إسرائيل باعتبار الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، شخصًا "غير مرغوب فيه" ، و هذه الحادثة جاءت في سياق متوتر على خلفية تصعيد عسكري كبير بين إيران وإسرائيل، مما أعاد فتح ملف العلاقات المتشابكة بين قوى الشرق الأوسط والأمم المتحدة، وأسفر عن انقسام دولي حاد حول سياسات التحيز والازدواجية في المواقف ، وسيما وأنه في الأول من أكتوبر، أصدر غوتيريش بيانًا يدعو إلى وقف التصعيد بعد إطلاق إيران ما يقارب 200 صاروخ باليستي باتجاه إسرائيل، ردًا على اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وقائد حزب الله حسن نصر الله. ومع أن البيان دعا بشكل عام إلى إنهاء العنف، إلا أنه لم يُسمِّ إيران بشكل مباشر كمسؤولة عن إطلاق الصواريخ ، و هذا التلميح أثار حفيظة إسرائيل، التي طالبت بإدانة صريحة لإيران، وعبرت عن استيائها من غوتيريش بإعلانه شخصًا "غير مرغوب فيه" ، وكانت ردود الفعل الإسرائيلية تتجاوز غضبًا على بيان واحد ، فهي تمثل استمرارًا لسياستها الرافضة لأي انتقاد حتى وإن كان مبطناً ، وموقف غوتيريش الذي يمكن اعتباره "محايدًا" في البداية، أثار معارضة إسرائيل لأنه لم يلبِ توقعاتها في التنديد الصريح بإيران، وهو ما دفع وزير الخارجية الإسرائيلي إلى اتخاذ قراره غير المسبوق بإعلان عدم الترحيب بالأمين العام في إسرائيل ،
وتكمن الإشكالية الكبرى في تعامل الأمم المتحدة مع ملفات الشرق الأوسط في التفاوت الملحوظ بين مواقفها تجاه الأطراف المختلفة ، الأمين العام، الذي يمثل القانون الدولي والحياد، يجد نفسه في قلب صراع يتطلب توازنًا دقيقًا في التصريحات ، غير أن موقف غوتيريش، الذي أدان إيران لاحقًا بشكل صريح في اجتماع مجلس الأمن في 3 أكتوبر، يشير إلى درجة من التحيز الواضح لإسرائيل، حيث تجاهل السياق الأوسع للصراع ، و
إدانة إيران، التي وردت بتفاصيل دقيقة في كلمته، لم تقتصر على الهجوم الصاروخي الأخير، بل شملت أيضًا تقييمًا سياسيًا بعيد المدى، إذ قال غوتيريش إن إطلاق الصواريخ "لا يخدم القضية الفلسطينية" ، وهنا، تجاوز غوتيريش دوره كوسيط دولي محايد ليصبح محللاً سياسيًا يحكم على أفعال إيران بأنها لا تحقق أي فائدة للفلسطينيين ، و هذه التصريحات تعكس تراجعًا واضحًا عن الحياد وتثير تساؤلات حول مدى موضوعية موقف الأمم المتحدة ، لهذا رد فعل المجموعة العربية جاء دفاعيًا، لكنه لم يكن خاليًا من التناقضات ، فالبيان الذي أصدرته المجموعة في 4 أكتوبر أدان إسرائيل على مواقفها تجاه الأمين العام، لكنه في الوقت نفسه كان دعمًا غير مباشر لغوتيريش دون انتقاد صريح لسياساته المتحيزة تجاه إيران ، وهذا التناقض يعكس محدودية التحرك العربي على الساحة الدولية، والذي غالبًا ما يكون محكومًا بالاعتبارات السياسية والدبلوماسية، بدلاً من التركيز على القضية الفلسطينية والانتهاكات المستمرة بحق الشعب الفلسطيني ، ومن جانب آخر، يجب أن نُذكر أن غوتيريش تجاهل في تصريحاته العديد من الانتهاكات الإسرائيلية الواضحة، مثل اغتيال إسماعيل هنية في يوليو الماضي، واستهداف قنصلية إيران في دمشق، وهي هجمات تنتهك القانون الدولي بشكل صارخ ،و الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية يُعتبر انتهاكًا واضحًا لسيادة سوريا وللاتفاقيات الدبلوماسية الدولية مثل اتفاقية فيينا ، ومع ذلك، لم يتخذ غوتيريش موقفًا واضحًا من هذا الانتهاك، مكتفيًا ببيانات عامة وغير مؤثرة، مما يعزز صورة الأمم المتحدة كهيئة عاجزة عن تحقيق العدالة ، وتحاول إسرائيل من خلال إعلان غوتيريش "شخصًا غير مرغوب فيه" التهرب من النقد الدولي وإعادة توجيه الرأي العام بعيدًا عن انتهاكاتها المستمرة ضد الفلسطينيين ،و استراتيجيتها المكشوفة تعتمد على تصوير نفسها كضحية دائمة للعدوان، حتى وهي تُمارس سياسات التهجير والاستيطان والاعتقالات الجماعية ، و الأمين العام للأمم المتحدة، من خلال عدم انتقاد هذه السياسات بشكل واضح، يعطي إسرائيل مساحة إضافية للاستمرار في ممارساتها العدوانية ، و
ان استخدام إسرائيل للتهديدات الدبلوماسية ضد غوتيريش يكشف عن محاولاتها المستمرة للضغط على المؤسسات الدولية وتوجيه مسار النقاشات بما يتناسب مع مصالحها ، وقد استطاعت في مرات عديدة تحييد دور الأمم المتحدة في التعامل مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، مما جعل المنظمة الدولية تبدو عاجزة عن اتخاذ مواقف فعالة تضع حدًا للانتهاكات المستمرة ، وهنا يتمظهر
الدور المفقود للأمم المتحدة من خلال التساؤل التالي : أين الحياد؟!
وإذا كانت الأمم المتحدة تمثل مظلة للقانون الدولي وتحقيق السلام، فموقفها المتردد تجاه الانتهاكات الصارخة يجعل مصداقيتها على المحك ، في حين أن غوتيريش لم يكتفِ بتجاهل الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل ساهم في ترسيخ سردية إسرائيلية متحيزة تُركز على الدفاع عن أمن إسرائيل بينما تتجاهل الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني ، وأحد الأمثلة البارزة على هذا التحيز هو تجاهل الأرقام الهائلة لضحايا الصراع الفلسطيني ، وآلاف الشهداء والجرحى من الأطفال والنساء والشيوخ، إضافة إلى تدمير واسع النطاق للبنية التحتية في غزة، كل ذلك لم يكن جزءًا من الخطاب الأممي الرسمي ، و كما تجاهل غوتيريش القرارات الدولية التي تدين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ، ما يجعلنا للأسف أمام أزمة الشرعية الدولية ، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل ما زالت الأمم المتحدة قادرة على لعب دورها كحامية للحقوق الدولية والمبادئ الإنسانية في ظل هذا التحيز؟! فموقف غوتيريش الأخير يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول مستقبل المنظمة ودورها في إدارة الصراعات الدولية، خاصة في ظل تحولها إلى ساحة لتصفية الحسابات السياسية بين القوى الكبرى. تظل التحديات الكبرى قائمة، والمجتمع الدولي مطالب بإعادة النظر في دوره في الشرق الأوسط، خاصة إذا كان يسعى إلى تحقيق سلام حقيقي ودائم في المنطقة. ناشطة في حقوق الإنسان على المستوى العالمي .