اقتحم مئات المستوطنين المسجد الأقصى أمس، وهذا الاقتحام ليس الأول من نوعه، حيث وصل عدد الذين اقتحموا المسجد الأقصى منذ بداية هذا العام أكثر من 60 ألف مستوطن.
هذا رقم مذهل، يؤشر إلى عدة حقائق، أولها أن إسرائيل وظفت هجوم السابع من أكتوبر 2023 لمضاعفة عدد الاقتحامات، وأعداد المقتحمين، ما دام المناخ بات انتقاميا وثأريا، كما يؤشر إلى أن المخطط الإسرائيلي بخصوص المسجد الأقصى، دخل مرحلة مختلفة، تم التحذير منها مئات المرات، وقد أصبحنا أمام واقع يقوم على ادامة الاقتحامات مرتين يوميا بما يعني التقاسم الزمني، توطئة لفرض سيناريو التقاسم المكاني، الذي سنراه في أي مرحلة من المراحل.
اللافت للانتباه هنا أن أكثر من ربع مليون مقدسي لا يتحركون ضد الاحتلال، لأن هناك إجراءات إسرائيلية غير مسبوقة ضد أهل القدس، تؤدي إلى تقييدهم يوميا، خصوصا، بعد هجوم السابع من أكتوبر، وسط المخاوف من ترحيل المقدسيين، أو سحب اقاماتهم، أو طردهم إلى الضفة الغربية، أو إلى أي مكان آخر، وهذا التقييد كانت دوافعه أمنية، أي منع المقدسيين من التحرك على خلفية الحرب الإسرائيلية في غزة، لضمان الأمن في مدينة القدس بالمعيار الإسرائيلي، ومنع أي رد فعل داخل المدينة، إضافة إلى بقية الإجراءات المعروفة من قيود الصلاة في الأيام العادية، ويوم الجمعة، وعمليات المداهمة والاعتقال والتفتيش وغير ذلك.
الإجراءات الإسرائيلية داخل القدس والتي تزامنت مع بدء الحرب على غزة، كان لها ارتداد أخطر على صعيد المسجد الأقصى، لأن الأثر الأساسي، كان يرتبط بعزل الكتلة المقدسية، أي السوار الشعبي الذي يوفر الحماية للحرم القدسي، وإشغال هذا السوار بمخاوفه من أي إجراءات إسرائيلية بشعة قد يتم اتخاذها، ما دام الكل يرى بأم عينيه ماذا يحدث في قطاع غزة من جرائم.
الركون الإسرائيلي هنا إلى تقييد الكتلة المقدسية، وعزلها عن المسجد الأقصى، بل والحاق الفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1948، بذات حالة التجميد والعزل، واقع خطير جدا، لأنه أدى إلى ترك الغزيين فرادى في هذه المذبحة، وسيؤدي بالمحصلة إلى الاستفراد الكامل بالمسجد الأقصى، الذي يعد كما هو معروف أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين.
هذا الركون قد لا يكون دقيقا، لأن المراهنة على الحالة التي نراها، قد يثبت فشلها في توقيت معين، خصوصا، إذا تواصلت الإجراءات الإسرائيلية بذات الطريقة ضد المسجد الأقصى، وسط المؤشرات التي تؤكد أن إسرائيل تختبر يوميا، رد فعل المقدسيين والفلسطينيين، مثلما تدرك إسرائيل أن لا خطر عربيا ولا إسلاميا في الأساس ضدها في هذا الملف لاعتبارات كثيرة.
المسجد الأقصى ليس مجرد مكان للصلاة، يحتاج فقط إلى إدامة سراجاته، بل يمثل رمزية دينية وسياسية واجتماعية وتاريخية، وقد تعرض طوال تاريخه إلى إغلاقات، وإلى تطاولات يعرفها الكل على مدى التاريخ، لكنه يمثل اليوم النقطة الأهم للتفجير في فلسطين، بما يجعل ملف الأقصى الأكثر حساسية، مع تواصل الإجراءات الإسرائيلية، واحتمالات فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الحرم القدسي، بالمعنى الديني أي الحاقه بالتبعية الإسرائيلية الإدارية، أو حتى اللجوء إلى تقاسم المكان، والسطو على المساحات الفارغة من إجمالي مساحته البالغة 144 دونما، أو حتى إقامة أي منشأة دينية تابعة لإسرائيل على أي مكان داخل الحرم، أو تسهيل تفجير أحد المسجدين، من جانب أي مجموعة إسرائيلية، خصوصا، مع وجود الأنفاق تحت الأقصى، والقدرة على دخول المستوطنين برعاية الاحتلال، خلال ساعات النهار والمساء.
إعادة إنتاج "الديموغرافيا الدينية" داخل القدس، أخطر ما يواجهه الأقصى، الذي باتت أخباره مجرد أخبار عادية لا تثير غضب أحد، وسط أمة المليارين التي تتفرج على ما يجري وكأننا أمام أثر حجري قديم يتم استهدافه، دون أن يحرك الأمر فينا أي رد فعل.
"الديموغرافيا الدينية" في القدس، ومحاولة إعادة تركيبها وتشكيلها، تشكل الخطر الأكبر خلال المرحلة المقبلة، بما يعنيه ذلك من نتائج سياسية، وكلف أمنية واجتماعية.