شهد العالم تحولات جذرية منذ نشوء النظام الدولي الحديث، حيث جاءت الأمم المتحدة كأمل عالمي في تعزيز السلام وحماية حقوق الإنسان ، غير أن هذا الأمل انقلب إلى خيبة، مع تراكم الأدلة على عجز المنظمة عن تحقيق العدالة الدولية، خصوصاً أمام هيمنة القوى الكبرى وتغوّل سياساتها في فرض مصالحها على حساب الشعوب المستضعفة ،وبات من الضروري إعادة النظر في هيكلية الأمم المتحدة وأدائها، ومساءلة مدى شرعية قراراتها وقدرتها على تطبيق القانون الدولي بمعايير عادلة وموحدة ، وضمن هذا السياق علينا أن نعيد التذكير أنه وفي مارس 2003، نشر ريتشارد بيرل، مستشار وزارة الدفاع الأميركية آنذاك، مقالاً مثيراً للجدل تحت عنوان "الشكر لله على موت الأمم المتحدة" ، وبرر بيرل في مقاله ذلك العجز الأممي عن إجازة التدخل العسكري الأميركي في العراق، مؤكداً أن النظام الدولي لا يحتمل أي معارضة للسياسة الأميركية، وأن الأمم المتحدة إما أن تكون خاضعة لمصالح القوى الكبرى أو لا تكون ، وكانت هذه الكلمات صريحة، لكنها في الواقع تعبر عن توجه استراتيجي قديم في السياسة الأميركية ، حيث تطلعت واشنطن منذ صعودها كقوة عظمى إلى ترويض الأمم المتحدة وإدماجها ضمن أولوياتها في الساحة العالمية ،وإن هذا التوجه لم يكن مجرد رغبة في بسط النفوذ، بل أُسس كجزء من البرنامج الانتخابي للرئيس الأميركي بيل كلينتون عام 1992، والذي صرّح باستهداف دمج الأمم المتحدة في السياسة الخارجية الأميركية ، وبناءً على ذلك، مارست واشنطن ضغوطاً سياسية ومالية على المنظمة، مما عرقل جهودها في الإصلاح، وخصوصاً في عهد الأمين العام الأسبق بطرس غالي، حيث عُرقلت خططه في إنشاء قوة حفظ سلام فعالة ومعالجة الأزمة المالية للمنظمة ، وكما شهدت قضية الشرق الأوسط مثالاً بارزاً على هذا الفشل الأممي، حيث تعطلت قرارات مجلس الأمن الخاصة بالسلام بسبب استخدام الولايات المتحدة حق النقض الفيتو لإجهاض أي تحرك يدين الانتهاكات الإسرائيلية أو يدعم حقوق الشعب الفلسطيني ، ويتجلى هذا الفشل في عجز الأمم المتحدة عن تطبيق القرارات الدولية الملزمة ، فقرارات مجلس الأمن بشأن فلسطين ولبنان لم تطبّق بسبب رفض إسرائيل، وبدعم أميركي واضح، وسط صمت دولي مريب ، بل إن الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي حاولت تبني هدنة إنسانية لوقف إطلاق النار، واجهت رفضاً صهيونياً قاطعاً للانصياع لأي قرار دولي، حيث تعلو لغة الحرب والهيمنة على لغة السلم والعدالة، لتؤكد بذلك أن العدالة الدولية أصبحت محصورة فقط في نطاق المصالح السياسية الضيقة ،
وعلى هذا الأساس، أصبح القانون الدولي ومبادئه خاضعين لهياكل النظام الدولي أحادي القطب ، فنجد أن الأمم المتحدة، التي شُكلت على أساس إقامة العدل، أضحت أداة ضعيفة تخضع للضغوط والمصالح الدولية للقوى المهيمنة، وهو ما حذر منه وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دو فيلبان قبيل الغزو الأميركي للعراق، مؤكداً خطورة تغييب الأمم المتحدة وتغليب لغة الحرب على القانون ، ومن هنا، تُثار الأسئلة حول الجدوى من تمسك الشعوب المستضعفة بالأمم المتحدة، وسط تزايد استخدام حق الفيتو كأداة لفرض سيطرة القوى الكبرى على قرارات المنظمة ، ولقد بات الفيتو جائزة حصلت عليها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، لا تعكس سوى "حق القوة" لا "قوة الحق"، وأصبحت أداة لتعطيل العدالة وإجهاض القرارات التي تُدين الانتهاكات، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني ، ويذكر التاريخ أن فشل الأمم المتحدة في فرض العدالة والسلام في قضايا العرب يمثل وصمة عار على جبين المنظمة، وعاملاً رئيسياً في انهيار مصداقيتها ، فما الجدوى من شرعية دولية لا تملك قوة القانون ولا تستند إلى القيم الإنسانية، بينما تُغرقها ازدواجية المعايير، حيث تعالج قضايا العرب تحت الفصل السادس الذي لا يحمل إلزامية صارمة، فيما تُفرض العقوبات والأحكام المشددة على دول أخرى تحت الفصل السابع ، وهذا الوضع ينذر بانحدار مستمر في مصداقية الأمم المتحدة، ويعكس مدى التناقض في تطبيق القانون الدولي، في ظل صمت مطبق من المجتمع الدولي ، بالتالي على الأمم المتحدة أن تختار بين استعادة هيبتها كمؤسسة عالمية للعدالة أو التلاشي في ظل الهيمنة السياسية المتغطرسة، وان الشعوب التي تتطلع للسلام لا تزال بحاجة إلى منظمة أممية قوية وموحدة، قادرة على فرض قراراتها من دون تحيز، وضامنة لتطبيق القانون الدولي بمصداقية ، وهذه المطالب لا تحمل ترفاً أخلاقياً، بل حاجة إنسانية ملحة، حيث تتفاقم التهديدات العالمية، وتزداد معاناة الشعوب المستضعفة أمام صمت عالمي لا مبرر له. ناشطة في حقوق الإنسان على المستوى العالمي .