في زحمة الانشغال بالحديث عن النجاح المدوي الذي أحرزته شرطة دبي في كشفها عن التفاصيل المتعلقة باغتيال الشهيد المبحوح في الإمارة، الذي يمكن تشبيه الحديث المتحمس عنه بالحديث عن تفاصيل عملية جراحية متقنة تنتهي بموت المريض، لم يبادر أحد فيما تابعناه من مقالات وتحليلات امتلأت بها الصحف إلى التنويه بأن الجهود الجبارة لشرطة دبي في الكشف عن الإرهابيين قتلة المبحوح لم تغن عن الرجل شيئاً، فهي لم تنجح في إنقاذه من التصفية، وكأن المهم في الأمر هو الكشف عن الجريمة وليس منع وقوعها؛ الأمر الذي يذكّر بكثير من الأفلام والمسلسلات البوليسية الأمريكية المتفذلكة، التي توحي وكأن الدوائر الجنائية المعنية تبتهج لحدوث الجرائم؛ ما يعطيها فرصة لإثبات براعتها عبر الكشف السريع عن مقترفيها، دون أن تكون معنية بفعل شيء يذكر للحيلولة دون حدوثها.
استشهد المبحوح المحظوظ وانتقل حياً يرزق إلى جنان الخلد يتنعم فيها بإذن الله مع الأنبياء والصديقين والشهداء، بعيداً عن بؤس عالمنا القذر الذي لا يؤسف حتماً على الخلاص منه، فكان رحمه الله الرابح الوحيد على الأرجح، وسط حزمة من الخاسرين. فقد خسرت حركة حماس خسارة موجعة بفقدانها عنصراً قيادياً متميزاً لم تحسن تأمين حمايته، فتركته بإهمال مؤسف وغير مفهوم أو مبرر مكشوف الظهر، ليكون لقمة سائعة للفتك به على يد الصهاينة القتلة، بتآمر من بعض الخونة المندسين بين صفوفها. فتح الجاثمة على قلب السلطة الخائرة كانت خاسرة أيضاً، وبأضعاف مضاعفة، فلقد أظهر الضلوع المخزي لبعض مسوخها في اغتيال الشهيد أي درجة من الانحطاط والفساد وصلت إليه؛ ما يرجح اقتراب موعد انقذاف تلك الحركة إلى محرقة التاريخ، بعد أن سمحت لبعض الأوغاد ممن سطوا عليها بتدمير تاريخها النضالي المشرف، وبعد تحول الكثير من عناصرها إلى أدوات رخيصة بيد مجرمي الكيان الصهيوني.
وهذا يقودنا إلى القول إن الخاسر الأكبر في كل تلك المعمعة قد يكون القضية الفلسطينية نفسها، التي وصلت إلى وضع مأساوي مخز لم تصل إليه قبل الآن، بفضل التخاذل العربي، والإصرار الانهزامي المستميت من جانب بعض القيادات البائسة على التبرؤ الكلي من نهج المقاومة، خلافاً لما عهدته كل حركات المقاومة عبر التاريخ، وتسليم مفاتيح القضية لأيد ملوثة لم تعد صالحة أو مؤهلة إلا لاحتضان الغانيات أو عدّ الدولارات أو مصافحة العدو، والبصم، طوعاً قبل كرهاً، على المزيد من القرارات المشبوهة التي تضمن تصفية القضية والتنازل عن أبسط الحقوق الشرعية لأصحابها المنكوبين.
جهاز الموساد سيء الذكر يمكن عده أحد الخاسرين الكبار في القصة، فقد تهشمت صورته الأسطورية المختلقة كواحد من أقوى وأعتى أجهزة الاستخبارات في العالم؛ إذ بدا أمام أعين الدنيا بعد انفضاح أدق الدقائق المتعلقة بجريمة الاغتيال، وعلى يد جهاز شرطة ينتمي فيما هو مفترض إلى ما يعرف بالعالم الثالث \"المتخلف\"، مجرد جهاز بدائي متعثر، يفتقر إلى الحد الأدنى من الخبرة والاحتراف والقدرة على تغطية الأنشطة السافلة لعملائه الخائبين.
أوروبا خسرت أيضاً واتسع الفتق في ثوب سمعتها المفتوق أصلاً، إذ يبدو أن بعض الأجهزة الأمنية والاستخبارية في القارة العجوز متورط في العملية، عبر تيسيرها أو غض الطرف عنها على الأقل. وحتى إذا ما كذبنا الشواهد والأدلة واستبعدنا جدلاً فرضية التورط المباشر من جانب تلك الأجهزة، فإن العملية تكشف عن المستويات المتمادية من النفاق والعنصرية وازدواجية المعايير التي تحكم نظرتها وتوجه عملها، فالإجراءات المتشددة للتفتيش والتحقق من شخصيات وهويات وخلفيات المسافرين عبر أوروبا لا يتم تطبيقها إلا على العرب والمسلمين، أما القتلة وعتاة الإرهاب من مرتزقة مفرخة الإرهاب الأولى في العالم، فيمرون وابتسامات وعبارات التأهيل والترحيب تحفهم، ليقوموا بتنفيذ جرائمهم المنكرة وهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الحريات الأساسية للإنسان كانت من كبار الخاسرين أيضاً، فالكم التفصيلي الهائل من المعلومات والصور التي لم تتردد شرطة دبي في كشفها حول تحركات المشتبه بهم أثناء وجودهم في دبي للإعداد لتنفيذ الجريمة، قد يبرر القول إن المدينة الآمنة ليست في واقع الأمر إلا محمية صغيرة يتم التلصص فيها على حركات وسكنات من يتورطون بالدخول إليها خطوة بخطوة، طبعاً بذريعة الحفاظ على أمن المدينة وزوارها، هذا الأمن الذي لا أحد يدري لمَ لم يستفد من سطوته الشهيد المبحوح قبل تعرضه للاغتيال.
الإعلام العربي كان خاسراً أيضاً، فقد أثبت للمرة التي حصر لها أنه يحتضن ثلة من الأبواق الصدئة التي لا تتمتع بقدر يعتد به من النزاهة والموضوعية والنبل؛ إذ سارع كثير من وسائل الإعلام في الوطن العربي، جرياً وراء الإثارة الرخيصة المغرضة، إلى تصديق وترويج الروايات الكاذبة التي أطلقها الإعلام الصهيوني، التي لمّحت بأن اصطياد المبحوح كان ممكناً بسبب خضوعه لإغواء امرأة كانت ضمن فريق القتلة الذين كانوا يترصدون به.
وأخيراً، وإذ أستحضر ما جاء في الحديث النبوي الشريف من أن الله يمنح الشهيد كرامة التشفع لسبعين شخصاً من أهله، فإنني أهنئ عائلة الشهيد المبحوح وأغبطها على استشهاد ابنها المناضل، ولكن عليّ في الوقت نفسه أن أعزي نفسي وأعزي ملايين الملايين من أبناء أمتنا العربية الإسلامية، فخسارتنا الممتدة لا حدود لها لو تعلمون؛ إذ لا شيء سيشفع لنا أمام محكمة الله في الدار الآخرة، وقبل ذلك أمام محكمة التاريخ في حياتنا الدنيا، بعد أن سمحنا لقتلة الكيان الإرهابي بأن يستبيحوا حرمات مدننا، فيعيثوا فيها تجسساً وقتلاً وفساداً وتفجيراً، دون أن يحسبوا، لجبننا وضعفنا وفرقتنا وفسادنا، أي حساب لنا، وأنى لهم أن يفعلوا، وهم يعلمون تمام العلم أننا كغثاء السيل، لا تشغلنا إلا اهتمامات صغيرة بائسة، تجمعنا طبلة، وتفرقنا عصى، ولا شيء يجعل الدم يغلي في عروقنا إلا مباراة كرة قدم تافهة.
د. خالد سليمان
sulimankhy@gmail.com